استمع إلى الملخص
- تم اختيار ثلثي أعضاء مجلس الشعب عبر لجان محلية، بينما عيّن الرئيس أحمد الشرع الثلث المتبقي، مما أثار انتقادات حول تمثيل البرلمان واعتباره هيئة شكلية.
- الانتخابات تُعد اختبارًا لصدقية المرحلة الانتقالية وفرصة لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، مع الحاجة لإرادة سياسية حقيقية لتحقيق الطموحات.
شهدت سورية في الخامس من أكتوبر/ تشرين الأول الحالي حدثا وصفته الرئاسة الانتقالية بـ"التاريخي"، إجراء أول انتخابات برلمانية منذ سقوط نظام بشّار الأسد في ديسمبر/ كانون الأول 2024، وذلك ضمن مسار سياسي انتقالي معقد، واعتبرتها السلطة خطوة مفصلية نحو إعادة بناء مؤسّسات الدولة، بينما رآها كثيرون إجراءً شكلياً لا يرقى إلى مستوى التغيير المنشود، ولا يعكس تطلعات السوريين الذين دفعوا أثماناً باهظة في سبيل الحرية والكرامة.
جرى اختيار ثلثي أعضاء مجلس الشعب (119 عضوا) عبر لجان محلية في 11 محافظة (عدا الحسكة والرقة والسويداء)، بلغ عدد أعضائها الذين يحق لهم التصويت كما الترشّح، نحو ستة آلاف فقط، من أصل أكثر من 19 مليون ناخب محتمل. أما الثلث المتبقي، فاحتفظ الرئيس أحمد الشرع بسلطة تعيينه، في خطوة اعتُبرت ضرورية لتعويض ضعف تمثيل بعض الفئات المهمّشة، كالنساء والأقليات، في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد. وخلال زيارته مركزاً انتخابياً في دمشق، وصف الحدث بأنه "مهم جدًاً"، مشيداً بما اعتبرها "حميمية وتشاركية" بين السوريين في هذه "اللحظة الحساسة"، وقال "... على السوري أيضاً أن يرفع رأسه به ويفتخر"، لكنه أقرّ بأن العملية "متوسّطة عملياً"، وتعكس الظروف الصعبة التي تمر بها سورية، من تهجير واسع، وتدمير للبنية التحتية، وتشتت ملايين السوريين في الداخل والخارج.
ورغم أن الانتخابات سدّت فراغاً دستورياً امتد منذ سقوط النظام البائد، ومنحت البلاد أول مؤسّسة تشريعية وطنية، إلا أن الطريقة التي أُجريت بها، من خلال لجان انتقائية، وغياب صناديق الاقتراع العامة، حرمت السوري من حقه الأصيل في اختيار من يمثله، فحين يُستبدل التصويت الشعبي بلجان مغلقة، تفقد العملية مضمونها الديمقراطي، ويتحوّل البرلمان إلى هيئة شكلية تكرّس السلطة القائمة بدلاً من تجديد شرعيتها.
لقد انتظر المواطن السوري، الذي عانى عقوداً من تجاهل نظامي الأسد الأب والابن إرادته وحقوقه الدستورية، أن تكون هذه الانتخابات مناسبة لتعزيز مفهوم المشاركة الشعبية، وأن يمارسها الناس بنكهة الحرية. كان الأمل أن تؤسّس التجربة الجديدة لنظام سياسي أكثر انفتاحا وتعددية، يعيد للمواطن مكانته التي فقدها، ويجعله فاعلاً لا متفرجاً على انتخاب ثلثي أعضاء البرلمان. ولكن اقتصار الانتخاب على دائرة ضيقة اختارتهم لجنة عيّنتها الرئاسة قلّص المشاركة الشعبية، وجعل من الصعب إقناع الشارع الذي عانى من الاستبداد عقوداً بأن التغيير المنشود بدأ فعلاً. فبدلاً من أن تكون الانتخابات فرصة لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن، بدت وكأنها تكرّس منطق التعيين والاحتكار، وتعيد إنتاج الهياكل القديمة بصيغة جديدة.
قد يعود سبب اللجوء لهذه الطريقة (الانتخاب غير المباشر) إلى صعوبة إجراء انتخابات عامة ومباشرة نتيجة تهجير ملايين السوريين وتشتتهم وفقدان الوثائق وعدم تأهيل البنية المؤسّساتية في معظم المدن والبلدات، أو في مخيمات النزوح وفي بلدان اللجوء. كما أن التعيين الرئاسي الثلث المتبقي من النواب يهدف إلى ضمان تمثيل بعض الفئات التي يصعب وصولها عبر الانتخابات في ظل التحديات القائمة.
لكن هذه المبرّرات، وإن كانت مفهومة في المرحلة الراهنة، والتي تغيب على ساحتها الأحزاب، ومكاتب لنقابات مهنية وعمّالية منتخبة، لا تلغي الحاجة إلى خطوات أكثر جرأة وشفافية في بناء نظام سياسي جديد، فالمفارقة أن الرئاسة الجديدة كانت تمتلك فرصة "تاريخية" لإطلاق تجربة برلمانية مفتوحة تعيد الثقة بين الدولة والمواطن، وتؤكد أن سورية ما بعد الأسدين تسير فعلاً نحو دولة المواطنة والحرية وحقوق الإنسان. لكن تلك الفرصة تُستنزف اليوم في خطوات وترتيبات أقل ما يقال فيها إنها ارتجالية، لا تعبّر عن تنوّع المجتمع ولا عن احتياجاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
الانتخابات، كما صيغت ونُفذت، تحرم المواطن من حقه الأصيل في اختيار من يمثله وينقل مطالبه ويشرح همومه تحت قبة البرلمان. فحين تُستبدل صناديق الاقتراع بلجان انتقائية تحتكم إلى معايير سياسية أو ولائية، تفقد العملية مضمونها الديمقراطي، ويتحوّل التداول الانتخابي إلى إجراء شكلي يكرّس سلطة المؤسسات القائمة بدلاً من تجديد شرعيتها. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن هذه الانتخابات فتحت الباب لبدء صياغة دستورٍ جديد يقوم على الفصل بين السلطات، وتعزيز العدالة الانتقالية والمساءلة. كما أنها منحت البلاد أول مؤسسة تشريعية ذات طابع وطني، يمكن أن تكون منطلقاً لتطوير الحياة السياسية في حال تم توسيع المشاركة لاحقاً، وإعادة النظر في آليات التمثيل الشعبي.
في مطلق الأحوال، تبقى هذه الانتخابات اختباراً أولياً لصدقية المرحلة الانتقالية، وفرصة لإعادة تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن. وفي حين قال الرئيس الشرع: "نتمنى أن يكون لأعضاء مجلس الشعب دور مراقبة مهم على الحكومة... وأن يكون المجلس الجديد فاتحة خير على سورية". يبقى تحقيق هذا الطموح يتطلب أكثر من الأمنيات، بل يحتاج إرادة سياسية حقيقية، ورؤية شاملة تعيد الاعتبار للمواطن السوري، وتضعه في قلب العملية السياسية.