استمع إلى الملخص
- تاريخيًا، مر قطاع غزة بتحولات سياسية بدءًا من الإدارة المصرية، مرورًا بالاحتلال الإسرائيلي، وصولًا إلى سيطرة حماس بعد فوزها في الانتخابات ورفض التعاون الدولي، مما عقد الوضع السياسي والأمني.
- من المتوقع تشكيل حكومة محلية بواجهة فلسطينية تحظى بقبول دولي، تقتصر صلاحياتها على الشؤون المحلية، مع استمرار روح التوافق بين الفصائل رغم اعتراضات محتملة من المقاومة.
ليس من السهل التكهن بواقع قطاع غزّة السياسي والأمني، وشكل عمل الحركة الوطنية والفصائلية وآلياتها، بعد طيِّ صفحة أول حرب إبادة في القرن الواحد والعشرين، بالنظر إلى تشابك العلاقات الإقليمية والدولية مع الواقع الفلسطيني، وارتباط صيرورة الأحداث في قطاع غزّة بقواه المقاومة، وبالمنظومة الإقليمية والدولية، وبدولة الكيان تحديدًا، وتأثير الأولى المباشر على أمن الكيان، وقدرتها على تهديد وجوده، كما حصل في "طوفان الأقصى" قبل عامَين، إذ ربّما يتعاظم الحضور الدولي، مع ارتدادات حرب الإبادة والفظائع التّي تخلّلتها، وموجة التضامن الشعبي والرسمي من طرف دول عدّة حول العالم. لكن؛ بكل تأكيد ستكون غزّة، وبالتوازي مع إعادة الإعمار الشاملة، مع واقع سياسي جديد، وتموضع مغاير للحركة الوطنية، وفصائلها المقاومة، خاصة حركة حماس، وبالتأكيد أيضًا مع واقع أمني وسلطوي وعسكري مقاوم يختلف كليًا أو جزئيًا عما قبل "طوفان الأقصى".
ربّما غزّة من أكثر البقع الجغرافية في العالم التّي شهدت تحولات سياسية جذرية في فترات زمنية قياسية، فبعد النكبة وتأسيس دولة الكيان عام 1948، خضع القطاع إلى الإدارة المصرية، وبعد حرب النكسة عام 1967 سيطر الاحتلال عليه وفرض حكمًا عسكريًا، ثم أدارته السلطة الوطنية الفلسطينية عام 1994، إحدى إفرازات اتّفاقيات أوسلو، سياسيًاً وأمنيًا، ضمن مشروع التمهيد لقيام الدول الفلسطينية على حدود عام 1967 (الضفّة الغربية، القدس، قطاع غزّة)، ومع الاقتتال الداخلي بين السلطة الفلسطينية وعمودها الفقري حركة فتح، وحركة حماس التّي تتبنّى الخيار العسكري وتعارض نهج المفاوضات وحلول التسوية، تكّمنت حركة حماس وبعد حوالى عام ونصف العام من فوزها في الانتخابات التشريعية، ورفض التعاون معها دوليًا، من السيطرة على قطاع غزّة صيف عام 2007، لذلك ليس من المستغرب أن تطرأ تحولات على واقع قطاع غزّة السياسي والأمني بعد حرب الإبادة، وتوجيه المقاومة ضربةً استراتيجيةً ذات طابع عسكري، واستنفار العالم الغربي كلّه للدفاع عن دولة الكيان، وإمدادها بكلّ الوسائل والإمكانات لهزيمة المقاومة، وعودة الثقة بالمشروع الصهيوني مكانًا آمنًا ومستقرًا ليهود العالم.
على صعيد العلاقات الوطنية الداخلية، ستستمر روح التوافق والانسجام، التّي سادت بين فصائل المقاومة خلال الحرب، بل ستشهد تطورًا وتوسعًا في مساحات التشاور والتنسيق
لذا ونظرًا إلى حجم إنهاك الشعب الفلسطيني في قطاع غزّة وخسائره البشرية والمادية خلال عامَين من حرب الإبادة، والدمار الهائل والشامل، الذي أصاب أكثر من 80% من مناطق القطاع العمرانية والزراعية والصناعية، وحجم التدخل الغربي للحفاظ على وجود دولة الكيان وإنقاذها من قيادتها الغارقة في أوهام توراتية غيبيّة مسيحانيّة، والمنشغلة بالاستمرار في الحكم والتهرّب من تهم الفساد التّي تلاحق رئيس وزرائها، فإنّ واقع قطاع غزّة سيختلف كليًا أو جزئيًا عمّا كان قبل "طوفان الأقصى"، وبكل تأكيد، وكما أعلنت حركة حماس أنّها لن تكون جزءًا من الهيئة الحاكمة لقطاع غزّة بعد الحرب، كما أن المقاومة ستضع سلاحها وسيقتصر نشاطها على الجوانب السياسية والاجتماعية والجماهيرية، كما أنّ حالة الانقسام التّي ضربت النظام السياسي الفلسطيني بعد سيطرة حماس على غزّة عام 2007، قد تصل نهايتها مع نهاية الحرب، وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، وإعادة تشكل النظام السياسي، فقد كان هدف الانقسام وإدامة حالة التشرذم وإفشال كلّ مبادرات وخطط المصالحة وإعادة اللحمة بين جناحي الوطن هدفًا "إسرائيليًا"، وخطًا أحمر لبنيامين نتنياهو وشركائه المتطرفين والفاشيين من التيارات الحريدية والعلمانية.
كما ورد في خطة الرئيس الأميركي لوقف الحرب، وكما هو متوقع، ستشكل حكومة محلية بواجهة فلسطينية من التكنوقراط ورجال الأعمال، منسجمين مع خط التسوية العام، لا يعترض عليهم الاحتلال، ويحظون بقبول من المجتمع الدولي (الولايات المتّحدة، الدول الأوروبية)، وتقتصر صلاحيات هذه الحكومة على الشؤون المحلية ذات الطابع الخدمي، قد تعترض فصائل المقاومة على هذه الحكومة وعلى مرجعياتها، أو تتحفظ على عدد من أعضائها، لكنّها لن تقف ضدّها، أو تعمل على إفشالها، لأنّ أولويّة أهل قطاع غزّة، والحركة الوطنية بالمجمل هو الشروع في إعادة الأعمار الشامل لقطاع غزّة، وإعادة الحياة للمؤسسات والخدمات الأساسية، وبناء غزّة من جديد.
قد تحدث صدامات محدودة بين القوى الأمنية الجديدة، التّي تدربت في مصر، وتشكّلت من أفراد من حركة فتح، أو من مستقلين لا صلة لهم بالمقاومة أو فصائها، وبين مجموعات من حركة حماس، خصوصًا إنّ حاولت هذه القوى الأمنية اعتقال أو مطاردة أيّ من عناصر الحركة، لأن القوى الأمنية لن يقتصر دورها على حفظ أمن المواطنين، وصيانة النظام العام، ولكن أيضًا مواجهة أيّ من مظاهر المقاومة المسلّحة، وملاحقة المقاومين، وكل من يفكر أو يخطط أو يبادر إلى مواجهة الاحتلال.
على صعيد العلاقات الوطنية الداخلية، ستستمر روح التوافق والانسجام، التّي سادت بين فصائل المقاومة خلال الحرب، بل ستشهد تطورًا وتوسعًا في مساحات التشاور والتنسيق، فإذا كان التنسيق والعمل المشترك هو النمط الأبرز خلال أيّام الحرب، فإنّ التعاون سيكون أكثر عمقًا، وأكثر اتساعًا في الظروف العادية، وستعمل حركة حماس على الحفاظ على وتيرة التنسيق والتعاون التّي سادت قبل الحرب، وأسس لها قائد الحركة الراحل يحيى السنوار، بل ستعمل على توسيع مساحتها وتكريسها، لتتحول إلى نهج عام.
حالة الانقسام التّي ضربت النظام السياسي الفلسطيني بعد سيطرة حماس على غزّة عام 2007، قد تصل نهايتها مع نهاية الحرب
بالمجمل؛ سيشهد قطاع غزّة بعد حرب الإبادة واقعًا سياسيًا وأمنيًا وفصائليًا جديدًا، يمتاز بحضور وتأثير دولي بارز، سواء من خلال المجلس بصيغته الانتدابية الاستعمارية، الذي سيشرف على حكومة التكنوقراط الخدمية، أو بتأثير القوات الأممية، التّي ستكون على أرض غزّة، مع تواري المظاهر المسلّحة، و العمل المقاومة بصيغته العسكرية السابقة، وعودة فصائل المقاومة إلى العمل السري، كما كان حاصلًا قبل تأسيس السلطة الفلسطينية، وانسحاب الاحتلال من قطاع غزّة، وهذا لا يعني غياب المقاومة بالكامل، فقد تلجأ الفصائل الوطنية إلى الاحتجاج سلميًا، وإعلاء الصوت بالتظاهرات والإضرابات والاعتصامات لإسقاط إدارة الانتداب الاستعمارية الجديدة، والمطالبة بطرد أيّ تواجد للقوات الدولية على أراضي قطاع غزّة.