أغاني الحصاد... عن سورية التي كانت

14 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 11:12 (توقيت القدس)
مزارع سوري يحصد القمح في ريف الكسوة جنوب دمشق (18/6/2020 فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في قرى الساحل السوري، كانت الأغاني الزراعية مثل "رواحي" جزءاً أساسياً من الحياة اليومية، تُنظم العمل وتربط الناس بالأرض، معبرة عن العلاقة العميقة بين الإنسان والطبيعة.
- مع مرور الزمن، تلاشت هذه الأغاني، مما أدى إلى فقدان الأرض لصوتها وذاكرتها، وتحول الحصاد إلى مناسبة محفوفة بالخوف، مما أثر على المجتمع الذي كان يستخدم الغناء كوسيلة للمقاومة.
- إحياء التراث الزراعي والغناء يُعتبر فعلاً سياسياً يُعيد الأمل، واعداً بعودة الحياة إلى الحقول والمجتمع، مما يُعطي بداية جديدة.

في قرى الساحل السوري، كان الصوت دائماً جزءاً من الأرض، ليست الأغاني الزراعية هناك مجرّد فن شعبي بل سجل جماعي للعلاقة بين الناس والحقول. في مواسم الزراعة والحصاد، غناء النساء والرجال أداة عمل، كإيقاعٍ ينظّم حركة الأيدي، وكجسرٍ يربط الجماعة بالأرض. تراث الساحل احتفظ بعشرات الأهازيج التي ولدت من التراب نفسه، لكنّ “رواحي” كانت أكثرها التصاقاً بالذاكرة، لأنها ارتبطت بلحظة حصاد القمح، تلك اللحظة التي تختصر الحياة كلها بين بذرة ولقمة.
في الفجر، قبل أن يتفتح الضوء على الحقول، كان الصوت يسبق الشمس، نساء القرية يخرجن ببطء، يحملن المناجل والقلوب، ويطلقنَ النغمة الأولى: "قومي خيط الصبح لاحي".
كانت الكلمات تمتزج برائحة التراب المبلّل بندى الليل، ومع الخطوات التي تعرف طريقها بين سنابل القمح الطويلة. لم تكن أغاني الحصاد مجرّد إيقاع للعمل، بل عقداً غير مكتوب بين الأرض ومن يزرعها. 
الحياة هنا، في الحقول بين البحر والجبل. كان غناء النساء بمثابة رفع راية الصباح؛ أنّ الأرض ستُفتح بالعمل، وأن الجماعة أقوى من التعب، وأنّ القمح ليس مجرد محصول، بل حياة كاملة تُنسج كل عام من جديد.
"قلبي معلّق بالملاحي" جملة صغيرة لكنّها تكثف فلسفة المكان. الملاحي هي ملوحة البحر، وهي أيضاً وعد الخصوبة. الساحل ببحره وحقوله، كان يعرف أنّ العيش ليس في طرف واحد من الجغرافية. القمح يحتاج للماء، والأرض تحتاج للملح، والحياة كلها تحتاج لصوت النساء الذي يعجنُ التعب بالفرح.
اليوم، تمرّ الريح على الحقول نفسها، لكن لا أحد يفتح الصباح بالصوت، الصمت أثقل من التراب. لم يعد الحصاد موعد فرح، بل في بعض القرى صار طريقاً محفوفاً بالخوف. قبل أعوام قليلة، لم يكن أحد يتخيّل أنّ أرض القمح يمكن أن تصبح مكان موت، أنّ طريق الحصيدة يمكن أن يتلوّث بدم إنسان على يد إنسان آخر، بعيداً عن أيّ منطق أو قانون. لم يعد الخطر من السماء أو قلة المطر، بل من بشر يقطعون حبل العلاقة بين الإنسان وأرضه.

في زمن الخوف، يصبح هذا التراث أكثر إلحاحاً، لأنه لا يتحدّث عن الماضي فقط، بل عن المستقبل أيضاً

ليس هذا التحوّل من الصوت إلى الصمت حدثاً عابراً. إنه جرحٌ ثقافي عميق، التراث الزراعي الشعبي في الساحل لم يكن فقط فناً بل كان وسيلة المجتمع ليؤكد وجوده. الغناء في الحصاد كان إعلان حضور وكان شكلاً من أشكال المقاومة القديمة ضد القحط والعزلة. أن تفقد الأرض صوتها يعني أن تفقد ذاكرتها وأن تفقد الجماعة نفسها حتى. ... ولكن التراث لا يموت بسهولة، ففي مكان ما هناك أرض ما زالت تحفظ الصدى، ربما في صمت الفجر، يمكن سماع همس بعيد: "رواحي عالحصاد رواحي". الأغنية لا تزال هنا، حتى لو لم تُغنَّ. التراب نفسه يخبئها مثلما يخبئ البذور؛ كل من يرددها اليوم، ولو في خلوته، يقوم بفعلِ مقاومة ضد النسيان.. ضد الخوف، وضد محاولة قطع خيط الصبح قبل أن يضيء.
في مجتمع جُرح بالصمت، يصبح الغناء فعلاً سياسياً بامتياز، أن تستعيد “رواحي” اليوم يعني أن تعيد كتابة العقد بين الأرض ومن يزرعها، بين الجماعة وما تبقى منها. الأغنية تتحول إلى وعد بأن الحقول ستسمع الصوت من جديد، وأنّ الحصاد القادم لن يكون حصاد قمح فقط، بل حصاد حياة كاملة تعود من تحت الرماد.
وفي زمن الخوف، يصبح هذا التراث أكثر إلحاحاً، لأنه لا يتحدّث عن الماضي فقط، بل عن المستقبل أيضاً. وفي النهاية، قد يعود أحدهم يوماً إلى الحقول، يضع يده على سنبلة قمح، ويجرؤ أن يفتح فمه بالنغمة الأولى. عندها لن يكون الغناء تذكّراً للماضي، بل إعلان بداية جديدة وربما ستغنّي النساء مرّة أخرى: "رواحي عالحصاد رواحي قومي خيط الصبح لاحي".

المساهمون