يعيش جميع السكان في قطاع غزة كابوساً حقيقياً نتيجة قسوة العدوان وغياب المساعدات الإنسانية والإغاثية، لكن معاناة فئة كبار السن مضاعفة، نظراً لصعوبة الواقع الذي يحرمهم من أبسط متطلبات الرعاية الصحية والاجتماعية، بفعل النقص الحاد في مختلف مقومات الحياة الأساسية.
وتتزايد صعوبة الواقع المعيشي يوماً تلو الآخر نتيجة تشديد الحصار الذي تواصل قوات الاحتلال الإسرائيلي فرضه منذ أربعة عشر شهراً، والذي تضاعف مع السيطرة العسكرية على معبر رفح البري في مطلع شهر مايو/ أيار الماضي، بعد اجتياح المدينة، وما تلاه من منع دخول مختلف المساعدات والمستلزمات المعيشية الأساسية، وأبرزها المواد الغذائية، ومشتقات البترول، والأدوية، والمستلزمات الصحية.
ويعتبر من تجاوزوا العقد السادس من عمرهم الفئة الأكثر هشاشة في قطاع غزة منذ بدء العدوان الإسرائيلي، الذي دمر نحو 80% من المباني السكنية والمنشآت الاقتصادية، علاوة على تسببه بتهجير قسري لنحو مليوني فلسطيني إلى مناطق يزعم جيش الاحتلال أنها "إنسانية" أو "آمنة"، لكنها تفتقر إلى أدنى أساسيات الأمان، كما تفتقد لجميع مقومات الرعاية والحماية.
وتسبب الاستهداف المباشر للمدنيين والمناطق السكنية في استشهاد وفقدان وإصابة ما يزيد عن 156 ألف فلسطيني، كما خلف حالة من عدم الاستقرار لعشرات الآلاف، ومن بينهم كبار السن، الذين انقطعوا عن ممارسة تفاصيل حياتهم الطبيعية، والتي تتضمن بروتوكولات العلاج والرعاية الخاصة بهم بفعل اضطرارهم إلى النزوح قسراً مع أسرهم على وقع أوامر الإخلاء والتهديدات بالقصف والأحزمة النارية.
وتزيد حالة التعطيش الإسرائيلي الممنهج للأسواق من ندرة البضائع الأساسية، وفي مقدمتها المواد الغذائية ومواد التنظيف، ما يزيد حجم المعاناة التي تواجه كبار السن، ويؤدي إلى ضعف أجسادهم نظراً لتفشي سوء التغذية. ووفق أحدث إحصائيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن 321 ألف فلسطيني ينتمون إلى فئة كبار السن ضمن عدد السكان البالغ 5.6 ملايين نسمة، ويشكل المسنون نسبة 6% من سكان الضفة الغربية، و5% من سكان قطاع غزة، ويظهر الإحصاء أن نحو 7% من شهداء العدوان الإسرائيلي المتواصل هم من كبار السن.
نزح الفلسطيني أسامة السكني من مدينة غزة نحو مخيم دير البلح، ويقول إن عائلته لم تفضل خيار النزوح إلى خارج المدينة، وقررت التشبث بالنزوح داخلها من منطقة إلى أخرى، إلى أن أجبروا على المغادرة بفعل اشتداد الجوع وانعدام مختلف مقومات الحياة، إلى جانب الاستهداف الإسرائيلي المباشر.
ويوضح لـ"العربي الجديد": "النزوح مأساوي بمختلف أشكاله، سواء بين مناطق مدينة غزة، أو نحو المناطق الوسطى والجنوبية، خاصة في ظل اضطراري إلى التنقل بوالدي السبعيني، الذي يعاني من عدم القدرة على المشي، ويعتمد على كرسي متحرك في التنقل. حين قررنا النزوح نحو وسط القطاع، قطعنا مسافة طويلة مشياً على الأقدام، رغم وعورة الطرق من جراء تدمير الشوارع وتجريف البنية التحتية".
يضيف السكني: "بعد النزوح ظهرت العديد من الصعوبات الإضافية، إذ نواجه مشكلات عدة في توفير المتطلبات الأساسية، نتيجة النقص الشديد في المواد الغذائية، ويتمثل التحدي الأكبر في توفير الأغذية الملائمة لوالدي المريض، الذي يحتاج إلى طعام غني بالفيتامينات والمعادن، إلى جانب حاجته الماسة إلى العديد من أصناف الأدوية، وأغلبها مفقودة، خاصة أدوية الضغط والسكري، فضلاً عن عدم توفر مراكز للرعاية الصحية بعد تدمير الكثير منها أو توقف البقية عن العمل".
يعيش المسن الفلسطيني، خالد الداهودي، داخل مدرسة تحولت إلى مركز إيواء للنازحين في وسط قطاع غزة، وهو يتلقى بدائل لأدوية علاج السكري والضغط الموصوفة له نتيجة نفاد غالبية الأصناف بفعل منع دخول الأدوية إلى القطاع، الأمر الذي تسبب بتردي وضعه الصحي، خاصة في ظل الأوضاع المعيشية القاسية التي تشمل الاكتظاظ، وسوء التغذية، وعدم تلبية مركز الإيواء متطلباته الخاصة.
تقول ابنته سلمي الداهودي لـ"العربي الجديد"، إنها اضطرت إلى البقاء برفقة والدها لضمان رعايته في ظل ظروف النزوح الصعبة، التي تنعدم فيها أدنى درجات الراحة والاستقرار. تضيف: "كان وضع والدي الصحي صعباً في الأيام العادية، نتيجة التداعيات السلبية للحصار الإسرائيلي، لكن أوضاعه تفاقمت بسبب الحرب، واضطرارنا إلى النزوح المتكرر الذي أصابنا جميعاً بالإرهاق".
وتلفت الداهودي إلى تداعيات إضافية للعدوان تتمثل في سوء الأوضاع الاقتصادية، من جراء فقدان مصادر الدخل، إلى جانب شح المساعدات الإنسانية، وخصوصاً المواد الغذائية، بالتزامن مع الغلاء الجنوني في الأسعار، الذي يزيد من الحرمان، ويحول بين الفئات الهشة، وفي مقدمتهم المسنون، وبين لقمة العيش التي من شأنها دعم صمودهم وقدرتهم على البقاء.
بدوره، يتحدث الفلسطيني حسام عودة عن المخاطر الجمة التي تعرضت لها عائلته بعد استهداف منزلهم بشكل مباشر وتدميره بعد دقائق من إطلاق طائرات حربية صاروخاً تحذيرياً، إذ انتقلوا إلى مركز إيواء قريب من المنزل غربي مدينة غزة، ثم انتقل برفقة والده المسن نحو مخيم النصيرات في وسط القطاع، في رحلة شاقة كانت محفوفة بالمخاطر والمتاعب.
ويوضح عودة لـ"العربي الجديد"، أنهم تعرضوا لكثير من المضايقات خلال مرورهم عبر محور نتساريم، حيث جرى إيقاف والده الستيني لساعات من دون إبداء أية أسباب، رغم الإرهاق الشديد الذي أصابه من جراء المشي لمسافة طويلة، الأمر الذي ضاعف من سوء أوضاعه الصحية والنفسية.
يقول: "كان والدي مولعاً ببيته، وقد تسبب تدميره بتدهور وضعه النفسي، كما أن طول أمد الحرب ساهم بخلق حالة من اليأس لديه، وهو يعاني من عدة أمراض مزمنة، ومضاعفات من جراء عملية جراحية أجراها مؤخراً. التأثيرات الكارثية للعدوان طاولت أدق تفاصيل الحياة اليومية، وأصبحت تهدد سلامتنا الشخصية بشكل مباشر، إذ نعاني لتوفير لقمة العيش، ولا يمكننا الحصول على الأدوية بسهولة".
ويتعرض كبار السن إلى جملة من الانتهاكات الخاصة بالحقوق الأساسية، وفي مقدمتها حق الحياة الكريمة، وتوفر الأمن، والمأوى، والغذاء، والدواء، والتنقل، وصولاً إلى الحق في الحياة، فيما تستهدف العمليات العسكرية الإسرائيلية جميع المدنيين بالقصف المباشر والمجازر المروعة، والتصفية الشخصية عبر القنص أو الإعدام الميداني، والتي تسببت بمسح ما يزيد عن 1206 عوائل من السجل المدني الفلسطيني.