تاريخ موجز لحرب الحروب اللبنانية

12 ابريل 2025
بيروت، 2007 (رمزي حيدر/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بدأت الحروب اللبنانية في 1975 بتداخل أطراف متعددة، ولم تحقق أهدافها مثل التغيير الديمقراطي، بل أدت إلى أزمة داخلية عميقة رغم انتهاء الحرب رسمياً في 1990 بعد اتفاق الطائف.

- بعد الحرب، قدمت بعض الأطراف اعتذارات ونقداً ذاتياً لدورها في الصراع، مثل الحزب الشيوعي اللبناني ومنظمة العمل الشيوعي، واعتذار جزئي من سمير جعجع عن الأضرار التي تسببت بها الحرب.

- شهدت فترة ما بعد الحرب تغييرات كبيرة، منها ولادة حزب الله وانشقاقه عن حركة أمل، وتغيرات في هيكلية الجيش اللبناني، لكن لم يتم التوصل إلى مصالحة حقيقية.

50 عاماً مرت على 13 إبريل/نيسان 1975، تاريخ اندلاع أول فصول الحروب اللبنانية. حروب لأنها لم تكن حرباً واحدة بين طرفين محددين، بل كانت من اُكثر الحروب تشعّباً في تاريخ الشرق الأوسط. تداخل فيها لبنانيون، مسيحيون ومسلمون، وفلسطينيون وسوريون وإسرائيليون، عدا عما يُمكن وصفهم بالمرتزقة الذين شاركوا لأسباب مادية أو عقائدية. وتهاوت العقائد في الحروب اللبنانية أمام واقعية سياسية فجّة، كان عمادها لاحقاً، بعد صمت المدافع، حكم أمراء الحرب اللبنانيين في دولة منبثقة من مشروع سلام مولود من اتفاق سياسي هو "اتفاق الطائف"، ومن تبدّل قواعد اللعبة في الشرق الأوسط بعد اجتياح صدام حسين الكويت في أغسطس/آب 1990. بعد خمسة عقود على الحروب اللبنانية، لم يتحقق من أهدافها العريضة شيء، هي التي بلغ عدد قتلاها بحسب أرشيفي صحيفتي النهار والسفير، 48094 قتيلاً و101745 جريحاً، وقد سقط العدد الأكبر في الاجتياح الإسرائيلي لبيروت في عام 1982، بواقع 19085 قتيلاً. وحتى اليوم، لا إجماع على هوية "الرصاصة الأولى" في الحروب اللبنانية، رغم الاتفاق العام على أن تاريخ 13 إبريل/نيسان 1975، أرّخ لبداية الاقتتال. فاغتيال مؤسس التنظيم الشعبي الناصري في لبنان، معروف سعد، في مدينة صيدا ـ جنوب لبنان، الذي أُصيب في 26 فبراير/شباط 1975، وتوفي متأثراً بجراحه في 6 مارس/آذار من العام عينه، سبق محاولة اغتيال مؤسس حزب الكتائب اللبنانية بيار الجميل في عين الرمانة، من ضواحي بيروت الشرقية، في 13 إبريل 1975، ومقتل 26 فلسطينياً على يد مسلحين كتائبيين خلال عودتهم في حافلة من مهرجان حزبي، في عين الرمانة أيضاً.

نهاية الحروب اللبنانية

انتهت الحرب من دون أن تتحقق أهداف أي من أطرافها: لا التغيير الديمقراطي حصل بقوة السلاح مثلما أرادت "الحركة الوطنية" (تحالف اليسار والفصائل الفلسطينية) ولا دولة تطغى فيها حقوق مدنية تحققت، ولا دولة مبنية على تشدّد طائفي وجدت مكانها، ولا تقسيم لبنان دويلات طائفية حصل ولا المحافظة على "الستاتيكو" الطائفي لمصلحة المارونية السياسية تحقق كما أرادت "الجبهة اللبنانية (تحالف اليمين المسيحي). وإذا كان هناك من شخص يود الانتقال سريعاً عبر الزمن من 13 إبريل 2025 إلى 13 إبريل 1975، فسيجد أن ما انزلق إليه اللبنانيون والفلسطينيون، بدايةً، أفضى إلى أزمة داخلية عميقة في كل خندق، وإلى اقتناع كثر متأخرين بأن ما حصل لم يكن يستحق كل هذا الاقتتال والخراب. مع ذلك، يكرر كثيرون، لبنانيون وغير لبنانيين، الحديث عن أن الحرب اللبنانية مستمرة بطرق أخرى، في مبالغة تخلط بين توترات مستمرة من جهة، وبين الحرب من جهة ثانية. لكن الأكيد أن كلمتي "الحروب الصغيرة" تُستخدمان للتعبير مجازياً لوصف حدة الأزمات، لأن لا شيء من الذي حصل بعد 1990 يحمل سمات دموية الحرب الأهلية، من دون التطرق هنا إلى الحروب الإسرائيلية على لبنان. كذلك فإنّ التوتر بين اللبنانيين لا يعني استمرار الحروب أو ارتفاع احتمالات اندلاعها مجدداً.

وحدهم الشيوعيون اعتذروا على قرار تفجير الحرب وأجروا نقداً ذاتياً 

وعطفاً على ذلك، فإن أطرافاً شاركت في الحروب اللبنانية، تحديداً الخاسرين فيها، أعربت عن اعتذارها على اتخاذ قرار تفجير الحروب اللبنانية، وأجرت أيضاً نقداً ذاتياً لذلك. من هؤلاء، الأمين العام الراحل للحزب الشيوعي جورج حاوي، الذي اعتذر في مؤتمر الحزب السادس في أنطلياس ـ المتن، شمالي بيروت، في عام 1991، عن الانخراط في الحروب اللبنانية. أما الأمين العام الراحل لمنظمة العمل الشيوعي محسن إبراهيم، فكانت له أيضاً كلمة في مناسبة مرور 40 يوماً على اغتيال حاوي في يونيو/حزيران 2005، جاء فيها أن "(الحركة الوطنية) في معرض دعمها نضال الشعب الفلسطيني ذهبت بعيداً في تحميل لبنان من الأعباء المسلحة للقضية الفلسطينية فوق ما يحتمل، طاقة وعدالة وإنصافاً... استسهلنا ركوب سفينة الحرب الأهلية تحت وهم اختصار الطريق إلى التغيير الديمقراطي". أما قائد القوات اللبنانية، سمير جعجع، فقد قدم نصف اعتذار في سبتمبر/أيلول 2008، بالقول: "أتقدم باسمي وباسم أجيال المقاومين جميعاً، شهداء وأحياء، باعتذار عميق صادق وكامل عن كل جرح أو أذية أو خسارة أو ضرر غير مبرر، تسببنا به خلال أدائنا لواجباتنا الوطنية طوال مرحلة الحرب الماضية. وأطلب من الله السماح وممن أسأنا إليهم السماح والتعالي والمحبة".

المعتذرون هنا كانوا الخاسرين في الحروب اللبنانية. الشيوعيون خسروا حربهم العقائدية أمام التطرف المذهبي، والقوات، ممثلة لليمين المسيحي، خسرت حربها أمام الداخل المسيحي والمحيط اللبناني. تُرجم ذلك بإعادة توزيع صلاحيات الرئاسات الثلاث، بدلاً من تفرّد رئيس الجمهورية الماروني بصلاحيات واسعة. مع ذلك، فإن كل الأطراف اللبنانية لم تتفق على رواية واحدة للحروب اللبنانية، كما أن سرديات التاريخ مختلفة لدى الجماعات اللبنانية. كذلك، فإن كل الأطراف لم تجرِ مصالحة أو مصارحة حقيقية، في ظلّ غياب مسار عدالة انتقالية. ومن بين أمراء الحرب، وحده جعجع دخل السجن بين عامي 1994 و2005، لا لسبب مشاركته في الحروب اللبنانية، بل بفعل قرار سياسي اتُخذ على مستويات سورية ولبنانية آنذاك.

أما العفو العام، فقد شمل الجميع، ليحلّ مكان ما كان يفترض أن يكون مسار مصالحة وعدالة ومصارحة. الدماء التي أُريقت في حرب السنتين، أي بين عامي 1975 و1977، شكّلت أساس ترسيم خطوط التماس الأولية، بين بيروت الشرقية التي حكمتها أحزاب الجبهة اللبنانية، الممثلة لليمين المسيحي، وبين بيروت الغربية التي قادتها أحزاب الحركة الوطنية، الممثلة للمسلمين واليسار والفلسطينيين. رافقت تلك المرحلة حملات تطهير وتصفية وتهجير متبادل. الفرز الديمغرافي تحقق بشدّة في تلك المرحلة. في عام 1978، طرأت مرحلة ثانية من الحروب اللبنانية: الاجتياح الإسرائيلي لجنوب لبنان (عملية الليطاني)، في مارس/آذار من ذاك العام، وانشقاق الجبهة اللبنانية بين قوات لبنانية وتيار المردة في يونيو/حزيران من العام عينه، وصولاً إلى حرب القوات اللبنانية ضد الجيش السوري بين يوليو/تموز 1978 وسبتمبر من العام عينه. في غضون ذلك، كانت الأفكار العقائدية، المناقضة للطائفية، تتهاوى تحت ضربات التشدّد المذهبي. الثورة الإيرانية في 1979، ساهمت في تعديل مفاهيم عدة في بيروت الغربية.

بدأ التيار الشيوعي بالتراجع أمام طرفين. الطرف الأول هو حركة أمل، التي باشرت في إحكام سيطرتها على بيروت الغربية، والطرف الثاني، هو السوريون، عبر حافظ الأسد، الذي لم يستسغ استخدام لغة عابرة للطوائف في حروب استُدعيت فيها كل عناوين الطائفية والمذهبية. في غضون ذلك، كانت القوات اللبنانية تُحكم سيطرتها على المنطقة الشرقية، بين عامي 1980 و1982، مع تحولها في حرب زحلة ضد السوريين (بين إبريل ويوليو 1981) إلى لاعب سياسي ـ عسكري في المعادلات اللبنانية. غير أنه بعد سبع سنوات من الحروب اللبنانية، كان لا بدّ من حصول أمر ما. الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، تحت مسمى عملية "سلامة الجليل"، في يونيو 1982، أنهى مرحلة من الحروب اللبنانية ودشّن أخرى عندما أمست بيروت أول عاصمة عربية تحتلها إسرائيل. مرحلة انتهى فيها عملياً النفوذ العسكري للفلسطينيين، عبر إخراج 11 ألف مقاتل منهم من بيروت إلى تونس، عشية مجازر مخيمي صبرا وشاتيلا في 15 و16 سبتمبر 1982.

بدأت الحرب بين الجبهة اللبنانية والحركة الوطنية قبل أن يتشظى المعسكران

 

ولادة حزب الله

كذلك انتهى في هذه المرحلة عملياً، نفوذ القوات اللبنانية، باغتيال قائدها المنتخب رئيساً للجمهورية، بشير الجميل، في 14 سبتمبر 1982. في خضم ذلك، وُلد حزب الله، بانشقاق صف واسع من القياديين فيه عن حركة امل، ومنهم الأمين العام للحزب، المُغتال في 27 سبتمبر 2024، حسن نصرالله. بعد عام 1982، اتخذت الحروب اللبنانية مساراً أكثر حدة، بدءاً من تشديد حركة أمل سيطرتها على بيروت الغربية وجنوب لبنان، فخاضت حروباً دموية، بعد طردها الجيش اللبناني من الضاحية الجنوبية لبيروت في السادس من فبراير/شباط 1984، بحجة إسقاط اتفاق 17 مايو/أيار 1983 مع إسرائيل. مع العلم أن الاتفاق مرّ في مجلسي النواب والوزراء، لكن رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل، شقيق بشير الجميل، لم يوقّعه. وانطلاقاً من انتفاضة السادس من فبراير 1984، عملت حركة أمل على تمتين مواقعها في حرب المخيمات ضد الفلسطينيين، بين عامي 1985 و1988، وضد حزب الله، بين عامي 1988 و1990. في المقابل، كان الوضع أكثر مأساوية في المنطقة الشرقية من بيروت، إذ إنه بعد اغتيال بشير الجميل، تهجّر المسيحيون من الجبل (قضاءي الشوف وعاليه) في 1983، ومن شرق صيدا في جنوب لبنان في 1985، وانغمست القوات اللبنانية في حروب داخلية في بيروت الشرقية وجبل لبنان الشمالي، بين عامي 1984 و1986.

لاحقاً، عاد الجيش اللبناني إلى الأضواء، بعد تحوله بين عامي 1975 و1988 إلى ألوية متناثرة، تتعامل مع قوى الأمر الواقع كل على حدة، وصولاً إلى تأسيس أفراد منه "جيش لبنان الجنوبي" (جيش أنطوان لحد)، الذي تعامل مع إسرائيل على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة حتى عام 2000. وفي عام 1988، شهدت مسيرة الجيش اللبناني تبدلاً جوهرياً، مع انتهاء عهد الرئيس أمين الجميل، بشغور رئاسي، ما حدا به إلى تسليم قائد الجيش في حينه، ميشال عون (رئيس الجمهورية بين عامي 2016 و2022)، رئاسة الحكومة الانتقالية. أشعل عون "حرب التحرير" ضد الجيش السوري في مارس 1989، التي انتهت في نوفمبر/تشرين الثاني 1989، من دون تحقيق أهدافها بإخراج السوريين من لبنان. وفي يناير/كانون الثاني 1990، اصطدم عون مع القوات اللبنانية، التي كان سمير جعجع قد أصبح قائدها. وساهمت هذه الحرب، التي دارت رحاها في المنطقة الشرقية، في تدميرها وتهجير سكانها. ولم تنتهِ هذه الحروب إلا باحتياح الجيش السوري، بإرادة دولية، قصر بعبدا الرئاسي، شرقي بيروت، الذي كان عون يتحصّن به، في 13 أكتوبر/تشرين الأول 1990، منهياً الحروب اللبنانية رسمياً.

المساهمون