- تغيير العملة أو حذف الأصفار أو إصدار فئات نقدية كبيرة تُطرح كحلول، لكنها لا تعالج الأسباب البنيوية للأزمة مثل انهيار الإنتاج والعجز المالي، وقد تؤدي إلى تآكل الثقة وزيادة "الدولرة".
- نجاح الإصلاحات النقدية يتطلب تعزيز الاحتياطي النقدي، الثقة بالقطاع المصرفي، تطوير البنية التحتية المصرفية، ورفع العقوبات، مع إدارة شفافة لأي دعم مالي خارجي.
لا تستمد العملة قيمتها من مكوناتها الفيزيائية أو من كمية النقود المطبوعة أو عدد الأصفار، بل من الشرعية الاقتصادية والإنتاجية، ومن قدرتها على خلق حيز للعمل العام، وقبل كل شيء هي تعبير عن ثقة المواطنين، في النهاية اختصار لسيادة الدولة ولمكانتها.
في الحالة السورية، تحوّلت العملة السورية إلى ما يشبه "السجل السياسي المصغّر" للنظام السابق. فالفئات النقدية الجديدة التي طُبعت خلال سنوات الحرب، تحمل صورة بشّار الأسد أو حافظ الأسد قبل ذلك في الفئات النقدية الأدنى، ما أضفى على العملة بُعداً أيديولوجياً يسهم في انقسام المواطنين تجاه النظرة إلى النقود الوطنية بدل أن يوحّدهم ويجعلهم مؤمنين بتلك العملة وبرمزيتها. في حالة سورية لم تعدّ العملة المحلية (الليرة) تعبيراً عن هوية اقتصادية جامعة، بل أصبحت عند كثيرين من المواطنين رمزاً لنظام فاسد ومنهار، ما أدّى إلى تفكك الرابط النفسي بين المواطن وعملته، وهو تفكك أخطر من التدهور المادي نفسه، وأدّى إلى شعور مبطن لدى مواطنين كثيرين بأنه يجب التغيير لمجرد التغيير، بهدف دفن الماضي السيئ، والتفكير في مستقبل أكثر تفاؤلاً وأكثر استقلالية. وصحيحٌ أن لا قيمة لمثل هذا الكلام، بمنطق الاقتصاد الكلي والمؤشرات الاقتصادية الكلية والمالية، حيث يسود منطق القيمة بدل منطق العلاقة الأيديولوجية.
برزت مسألة تغيير العملة أو حذف الأصفار أو إصدار فئات نقدية كبيرة، حلولاً مطروحة على الطاولة، لكنها في الحقيقة حلول تحمل رمزية سياسية/ اقتصادية بقدر ما هي خطوات تقنية مصرفية بحتة
ترافق هذا الانفصال النفسي والاقتصادي مع جملة من العوامل المالية الحادة، كتصاعد عمليات المضاربة على الليرة السورية في السوق السوداء، حتى وصل سعر الصرف إلى ما يقارب 30 ضعفاً قياساً لمستواه في عام 2011، إضافة إلى تنامي عمليات تهريب العملة إلى خارج البلاد، ولا سيما الدول المجاورة، حيث تستخدم لأغراض تجارية أو لغسل الأموال. هذه العمليات استنزفت السيولة النقدية في الداخل، وأصبح المعروض من القطع المحلي لدى البنك المركزي ما يسمّى في الأدبيات الاقتصادية M0 (Money Supply) أقل ما يمكن، ولم يعد يشكل سوى أقل من 40% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذه الحالة فاقمت من عدم استقرار سعر الصرف، في ظل عجز السلطات النقدية عن الضبط أو المراقبة للسيولة M0 (القاعدة النقدية) التي تشمل النقد المتداول واحتياطيات البنوك M1، تُضاف إليه الودائع الجارية M2، ما يعكس مستويات متصاعدة من السيولة. ويقدر خبراء اقتصاديون حجم الكتلة النقدية المهربة بحوالي 14% من حجم الكتلة النقدية الإجمالية.
ومع مرور الوقت، وبسبب عمليات الفساد الكبير، انهار ما تبقّى من احتياطي مصرف سورية المركزي من العملات الأجنبية والذهب، وتلاشت قدرته على التدخل في السوق للدفاع عن الليرة. كذلك فقدت البنوك المحلية قدرتها على تأمين الحد الأدنى من التمويل أو تأمين السحوبات المالية للمودعين.
في ضوء هذا المشهد، برزت مسألة تغيير العملة أو حذف الأصفار أو إصدار فئات نقدية كبيرة، حلولاً مطروحة على الطاولة، لكنها في الحقيقة حلول تحمل رمزية سياسية/ اقتصادية بقدر ما هي خطوات تقنية مصرفية بحتة، بل أشبه بإعلان صريح، إن حصل، عن نهاية مرحلة كاملة من التدمير الممنهج للقطاع النقدي برمته، وبداية مرحلة أخرى يفترض أن تعيد بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع من جديد. لكن هذه الإجراءات، على الرغم من مظهرها الفني أو التقني، تُعد في حقيقتها قرارات سيادية بالغة الحساسية، ذات أبعاد سياسية ونفسية واقتصادية معقدة. فلا يمكن عزل أي خطوة من هذا النوع عن السياق العام للدولة، من حيث وجود بنية مؤسساتية مستقرة، واحتياطي نقدي كافٍ، وشبكة مصرفية فعالة، وثقة مجتمعية تدعم العملة الوطنية. وفي غياب هذه الشروط كما هو الحال في سورية، تتحول تلك الإجراءات من أدوات إصلاح إلى رهانات خطرة، قد تُفاقم الأزمة بدل أن تخفف من حدّتها. في ضوء هذا المشهد الاقتصادي/ السياسي المعقد. ما السيناريوهات المطروحة للسياسة النقدية في سورية؟
أولاً: حذف الأصفار خطوة شكلية من دون مضمون إن لم تترافق مع إصلاحات، فهو إجراء تقني يُستخدم في بعض الدول التي تواجه تضخّماً مفرطاً، أو تضخماً جامحاً يصل إلى مستويات قياسية في وقت قصير، كما حدث في تركيا عام 2005 أو في البرازيل أو بعض الدول الأفريقية خلال العقود الماضية.
يطرح هذا الإجراء حالياً في سورية وسيلةً لتسهيل التعاملات اليومية وتبسيط العمليات المحاسبية والمصرفية، بل حتى لإعطاء انطباع نفسي بأن قيمة العملة السورية تحسّنت. لكنه، في جوهره، لا يمسّ الأسباب البنيوية التي أدّت إلى تآكل قيمة الليرة خلال السنوات الماضية لحكم النظام السابق. كانهيار الإنتاج، والعجز في الموازنة العامة، والتوسّع في الإنفاق الحكومي بلا مقابل إنتاجي، والاعتماد المفرط على طباعة النقود لسد الفجوات المالية، أي ما يُعرف بـ"التمويل بالعجز".
طباعة أوراق نقدية جديدة حل تقني، لكنه ليس حلاً جذرياً، في ظل تصاعد معدّلات التضخم في سورية
وعليه، يمكن القول إنه إذا ما استمرّت هذه الممارسات، فإن حذف الأصفار لا يُعدو كونه تغييراً شكلياً قد يُرضي العين، لكنه لا يعالج جوهر الأزمة. علاوة على ذلك، يتطلب حذف الأصفار جهداً إدارياً ولوجستياً كبيراً، يشمل إعادة تصميم العملة، وتعديل كل الأنظمة المحاسبية والمصرفية، وتحديث البرامج المالية، وتعديل العقود، والأسعار، والأجور. وهذه التغييرات تفرض أعباءً مالية وفنية لا يمكن الاستهانة بها، خصوصاً في ظل البنية الإدارية المتآكلة في سورية، وكذلك غياب القدرات التقنية الحديثة في معظم مؤسسات الدولة المصرفية والمالية والاقتصادية.
ثانياً: طباعة أوراق نقدية جديدة حل تقني، لكنه ليس حلاً جذرياً، في ظل تصاعد معدّلات التضخم في سورية، وارتفاع الأسعار والتضخم إلى مستويات قياسية بمئات الأضعاف عما كانت عليه قبل عام 2011. تبدو الخطوة منطقية للوهلة الأولى، فهي تُسهل التداول، وتستجيب لواقع السوق الذي تجاوز فعلياً قدرة الفئات الصغيرة على تلبية احتياجاته، حيث خرجت فئات من التداول تماماً. كذلك فإنها تقلل من الجهد المحاسبي والمالي للمحاسبين والمديرين الماليين، لكنها في العمق ليست كذلك، بل انعكاس مباشر لحالة التراجع النقدي. فإصدار فئات كبيرة كما يراه الكثير من الخبراء الاقتصاديين هو بمثابة "إعلان غير مباشر" بأن العملة فقدت جزءاً كبيراً من قيمتها السوقية، وقدرتها الشرائية، وأن المصرف المركزي لم يعد قادراً على كبح جماح التضخم. ولهذا السبب، غالباً ما يُنظر إلى هذه الخطوة على أنها مؤشر إضافي على ضعف العملة، ما يؤدي إلى تآكل ما تبقى من الثقة بها. وقد يراه بعضهم حلاً معقولاً في غياب الحلول الاستراتيجية، كزيادة النمو الاقتصادي والإنتاج وتخفيض التضخم جراء الاستثمار وزيادة الصادرات والإنتاجية وتحقيق التنافسية في الاقتصاد السوري. والأثر النفسي هنا بالغ الخطورة: حين يرى المواطن أن الدولة تُصدر ورقة نقدية بقيمة عشرة آلاف ليرة، أو أعلى منها، يُدرك فوراً أن الليرة لم تعد تمتلك القوة الشرائية التي كانت عليها سابقاً، ويبدأ بالبحث عن ملاذات آمنة، كالدولار أو الذهب أو حتى العقارات. ويعزّز هذا السلوك ظاهرة "الدولرة" في السوق، ويُضعف من استخدام العملة المحلية في التبادلات اليومية، الأمر الذي يُفقدها دورها الطبيعي مخزناً للقيمة ووسيلة للتبادل.
والإصلاحات النقدية المنوي اتخاذها، سواء كان عبر إصدار عملة جديدة كلياً، أو من خلال حذف الأصفار من العملة الحالية، لا تُعد قراراً اقتصادياً فحسب، بل هي قرار سياسي وسيادي يرتبط بمدى استقرار الدولة ومؤسّساتها. وتمثل هذه الخطوة إعلاناً رمزياً لبداية جديدة، تتطلب بيئة مواتية تحقق شروطاً أساسية لا تتوفر في سورية حالياً. والإدارة السورية الحالية، على ما يبدو، عازمة على الانعتاق من الماضي بكل أشكاله ورموزه، ولكنها في المقابل تدرس كل الخيارات المتاحة، وتفاضل بينها في تئنٍّ، فهي استقدمت خبراء ووزراء تكنوقراط عارفين في التجارب الدولية، ومطلعين عليها. من هنا جاءت التصريحات الحكومية لتنفي ما يتداول عن عمليات تبديل العملة الحالية، مؤكّدة أنها تدرس كل الخيارات وتفضل أن تخطو بكل ثقة نحو المستقبل بعيداً عن الاستعجال والتسرّع. وبعيداً عن التأثير السياسي للسياسة المالية والنقدية، وانطلاقاً من هذا الفهم، ينصح الخبراء الاقتصاديون بالقيام ببعض الإجراءات، قبل القيام بأي إصلاحيات نقدية نجملها في الآتي:
تتطلب عملية تغيير العملة بنية تحتية مصرفية حديثة وفعالة، تشمل عوامل الأمان وتقنياته المتقدّمة لطباعة العملة
أولاً، تعزيز الاحتياطي النقدي في المصرف المركزي: يعتمد نجاح تغيير العملة مباشرةً على توفر احتياطي نقدي قوي من العملات الأجنبية الصعبة، ويقدر خبراء اقتصاديون أنه يجب أن يتوفّر على الأقل نحو ملياري دولار أو أكثر في احتياطي يسمح بعدم التلاعب بالليرة السورية، وكذلك احتياطي من الذهب. ولا يكون هذا الاحتياطي مجرّد رقم في دفاتر الحسابات، بل أداة واقعية تدعم استقرار العملة الجديدة عند إصدارها. والبنك المركزي يمكن أن يواجه صعوبات كبيرة في تأمين احتياطي كافٍ في ظل الاشتراطات التي تضعها المؤسسات الدولية المانحة، وكذلك الدول العربية، كالسعودية وقطر والإمارات، التي لم تتجه بعد إلى تأمين إيداع كافٍ في البنك المركزي لتحقيق الاستقرار النقدي المطلوب، فضلاً عن فقدان الموارد المالية الداخلية جرّاء عمليات تهريب العملة الصعبة، أو إخراجها بسبب عمليات الاستيراد غير المدروس، كالسيارات والمواد الغذائية والكهربائيات ومصادر الطاقة، ما يجعل العملة السورية عرضةً لانهيار فوري إذا لم يكن هناك دعم قوي وملموس للبنك المركزي من الدول العربية، كالسعودية وقطر، على شكل وديعة، أو تأمين احتياطي من القطع الأجنبي عبر إجراءات أخرى أكثر فعالية.
ثانياً: تعزيز الثقة الشعبية والمؤسّسية بالقطاع المصرفي السوري: الثقة التي يوليها السوريون للعملة المحلية هي الأساس لاستقرارها. وفي الحالة السورية، فإن ثقة الناس بالنظام النقدي منهارة تقريباً بسبب سنوات من التضخم المفرط، والفساد المؤسسي، وغياب الشفافية. بالإضافة إلى ذلك، يعاني البنك المركزي من ضعف الاستقلالية وعدم القدرة على ممارسة دوره بفعالية، ما ينعكس على ثقة الأسواق المحلية والدولية به. وفي ظل هذه الظروف، يصعب فرض عملة جديدة على الناس من دون إعادة بناء هذه الثقة تدريجياً.
ثالثاً، تطوير البنية التحتية المصرفية والتقنية: تتطلّب عملية تغيير العملة بنية تحتية مصرفية حديثة وفعالة، تشمل عوامل الأمان وتقنياته المتقدمة لطباعة العملة، وأنظمة توزيع محكمة تغطي المدن والأرياف كافة، إضافة إلى نظم دفع إلكترونية متطورة تضمن السرعة والسلاسة للتبادل النقدي التجاري والاستهلاكي. في حالة سورية، البنية التحتية المصرفية متدهورة، بسبب سنوات الحرب الطويلة، وبسبب العقوبات والحصار الاقتصادي، وأغلب البنوك المصرفية تفتقر إلى الكوادر المؤهلة والتكنولوجيا الحديثة، ما يزيد من أخطار حدوث فوضى خلال تنفيذ عملية التغيير.
رابعاً، تطوير منظومة الدفع الإلكتروني: في ظل الأزمات النقدية الحادّة، وارتفاع معدلات التضخم، وتآكل قيمة العملة الورقية، تصبح وسائل الدفع الرقمية ضرورة اقتصادية، وليست رفاهية تقنية. إذ إن تطوير بنية تحتية آمنة وفعّالة للدفع الإلكتروني يسهم في تقليل الاعتماد على النقد الورقي، ويحد من التداول غير الرسمي للعملة، ما يعزز قدرة الدولة على مراقبة السيولة وتوجيه السياسات النقدية بفعالية أكبر.
في ظل الأزمات النقدية الحادّة، وارتفاع معدلات التضخم، وتآكل قيمة العملة الورقية، تصبح وسائل الدفع الرقمية ضرورة اقتصادية
خامساً، اقتراح وديعة خليجية لدى البنك المركزي: فرصةٌ مشروطةٌ لإعادةِ بناءِ الثقة. تاريخياً، لعبت الودائعُ السيادية دوراً حاسماً في إعادةِ التوازن لاقتصادات منهارة، كما حدث في تجارب بعض الدول العربية بعد فترات من التراجع النقدي. في الحالة السورية، قد تمثل هذه الوديعة طوق نجاة مؤقتاً، بشرط أن تُدار ضمن إطار شفاف ومهني يخدم الإصلاح النقدي الحقيقي، لا تغطية الفشل المؤسسي أو تمويل العجز الحكومي المزمن.وفي حال استخدامها في بيئة تفتقر إلى الشفافية والحوكمة، فإنها سرعان ما تُستنزف دونما أي أثر يُذكر، وتتحوّل إلى مجرد مورد مُهدَر يضاف إلى سجل الفشل الاقتصادي المزري الذي كان سائداً قبل التحرير.
الإصلاحات النقدية ضرورة مؤجّلة
يمثل رفع العقوبات الأميركية والأوروبية عن سورية نقطة تحول محتملة في قدرة الدولة على اتخاذ قرار تغيير العملة، سواء كان ذلك عبر استبدال كامل للعملة، أو حذف الأصفار، أو حتى طباعة فئات نقدية جديدة. هذه الخطوة ليست مجرد مسألة سياسية بحتة، بل ترتبط مباشرةً بالأسس الاقتصادية التي تجعل مثل هذه العملية ممكنة وناجحة، إن توفرت لها الشروط والمقومات النقدية أولاً، وبقية الشروط الأخرى تالياً. إذ عندما تُرفع العقوبات، يُتوقع أن تفتح الأبواب أمام تدفق العملات الأجنبية إلى سورية بعد فترة طويلة من الحصار والعقوبات الاقتصادية، وفي ظل الظروف الاقتصادية والسياسية الراهنة في سورية. بجانب ذلك، إن البيئة السياسية التي تحكم سورية تلعب دوراً جوهرياً في نجاح أي إصلاح نقدي أو فشله؛ إذ إن الإرادة السياسية والتوافق الداخلي والخارجي ضروريان لضمان استقرار الاقتصاد وثقة المستثمرين والمواطنين على حد سواء. لذا، إن أي محاولة لتغيير العملة في الوقت الراهن من دون معالجة جذرية للأسباب الاقتصادية والسياسية الراهنة، أو توفير بيئة مستقرة، ستتحول إلى مغامرة محفوفة بالمخاطر، قد تزيد الأزمة تعقيداً بدلاً من حلها. لهذه الأسباب، يظل تغيير العملة أو حذف الأصفار خياراً يجب تأجيله حتى إشعار آخر، والاهتمام بالخطوات الأولية من إصلاحات هيكلية واقتصادية شاملة تعيد بناء الثقة وتعزز القدرات المالية للمؤسسات قبل الدخول في مثل هذه المغامرة النقدية الكبيرة.