استمع إلى الملخص
- قام الرئيس عباس بتعيين حكومة جديدة كخطوة شكلية للالتفاف على الضغوط الدولية، معلنًا عن إصلاحات لم تستجب للمطالب الشعبية، بل هدفت لتعزيز موقفه أمام المانحين العرب، مثل العفو عن بعض المفصولين واستحداث منصب نائب الرئيس.
- رغم إعلان عباس عن انتخابات عامة، أُلغيت الانتخابات التشريعية في 2021 لعدم توفر الظروف الملائمة. يسعى عباس لتهيئة خليفة له، بينما تظل الإصلاحات شكلية وتفرض دون استشارة الشعب، في ظل تسارع مشروع الضم والتهجير.
لم تتوقف المطالب الشعبية والمؤسساتية والفصائلية الفلسطينية بضرورة إحداث إصلاحات في منظّمة التحرير، ومختلف المؤسسات الفلسطينية التي يحتكر كامل صلاحيتها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، لا سيّما في ما يتعلق بالمصالحة الداخلية الفلسطينية، والبرنامج الوطني النضالي، والعلاقة مع الاحتلال على مدار سنوات وجود عباس في منصب رئاسة السلطة والمنظمة وحركة فتح، التي ناهزت العشرين عامًا. وفي المقابل لم يألوا الناس جهدًا في البحث عن سبيلٍ لإحداث أيّ نوعٍ من الإصلاح سواء من داخل المنظومة أم من خارجها، من ذلك تهافت الناس على الترشح لانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، التي كان من المزمع إجراؤها في 2021، وتشكيل القوائم الانتخابية التي بلغ عددها 36 قائمةً، ما يدّل على رغبة الناس في الإصلاح والتغيير ومحاولتهم أن يكونوا جزءًا من العملية، غير أن الرئيس عباس حطّم طموحهم آنذاك بإلغائه الانتخابات متذرّعًا بأنّ الاحتلال لم يمنح الإذن لإجرائها في القدس.
في ظلّ الظروف الحالية، التي يواجه فيها الشعب الفلسطيني تحديًا وجوديًا متعدد الوجوه، من إبادةٍ مستمرةٍ بأنماطٍ مختلفةٍ في قطاع غزّة، ومخططات تهجيرٍ في القطاع والضفّة، وتطبيق سياسة حسم الصراع في الضفّة الغربية، بما يشمل التدمير والتهجير، وإعادة فرض الاحتلال العسكري في بعض المناطق أمرًا واقعًا، والتقسيم الفعلي للضفّة الغربية حقيقةً يوميةً معاشةً، وسعي إسرائيل إلى إنهاء وجود السلطة نفسها، فقد أصبحت الحاجة إلى إجراء إصلاحاتٍ حقيقيةٍ جذريةٍ شاملةٍ ملحةً لمحاولة مواجهة تلك التحديات، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه. غير أنّه؛ ومنذ بداية تصاعد التحديات والتهديدات مع صعود حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل، أوائل 2023، وصولًا إلى اللحظة الحالية، أغلق الرئيس الفلسطيني كل أبواب الإصلاح، رغم لقاءاته مع قادة الفصائل الفلسطينية، واجتماعه بأمنائها العامين في العلمين، وهو اللقاء الذي جاء بناءً على دعوةٍ منه، عقب عدوان الاحتلال الموسع الأول على جنين، في أوائل يوليو/تموز 2023، غير أن الاجتماع لم يتمخض إلّا عن مزيدٍ من إصرار الرئيس عباس على التمسك بسياساته، ورؤيته الأحادية لطبيعة البرنامج الوطني. ومع اندلاع حرب الإبادة الجماعية، وما رافقها من تحدياتٍ وجوديةٍ كان هناك أملٌ بأنّ تشكل هذه التحولات حافزًا للسعي إلى توحيد الصفوف، والعمل على الخروج بموقفٍ فلسطينيٍ موحّدٍ أمام العالم. غير أنّه من المعلوم أنّ الرئيس عباس قد اختار التغيب دائمًا، أو تعطيل مخرجات لقاءات الفصائل والتنصل منها، خاصّةً بين حركتي فتح وحماس، محبذًا سياسة الانتظار وترقب مصير الحرب، والتعويل على الفرص التي قد تنتج عنها، على اعتبار أن السلطة الفلسطينية هي إحدى البدائل المطروحة لإدارة قطاع غزّة بعد الحرب.
إنّ طرح السلطة بديلًا ممكنًا من قبل عددٍ من القوى الإقليمية والولايات المتّحدة، رغم المعارضة الإسرائيلية، لم يكن من دون مقابلٍ عليها أن تؤديه، فقد أخذت تلك الأطراف تطالب السلطة بإجراء إصلاحاتٍ أو تجديدٍ أو تنشيطٍ حتّى تصبح أهلًا لإدارة قطاع غزّة. بطبيعة الحال، لم تأخذ المطالب الإقليمية والدولية مطالب الشعب الفلسطيني بالإصلاح وتصوره له بعين الاعتبار، إنّما كانت، وكأنّها، محاولاتٌ لإرضاء إسرائيل، وإقناعها بأهيلة السلطة لإدارة قطاع غزّة. مع ذلك، لم يتجاوب الرئيس الفلسطيني مع تلك المطالب، لأنّها تهدف بالدرجة الأساسية إلى تنحيته عن المشهد بطريقةٍ أو بأخرى، ضمن تغييراتٍ جوهريةٍ أخرى في بنية السلطة وسياساتها.
إنّ مسألة العفو بالصيغة التي يطرحها الرئيس عباس تجعل الأمر يبدو كأنّه يتعامل مع حركة فتح، ومنظّمة التحرير من ورائها، على أنّها ملكٌ خاصٌ له
عندما عيّن الرئيس الفلسطيني حكومةً جديدةً، برئاسة محمد مصطفى، كانت خطوته التفافًا على مطالب الإصلاح الإقليمية والدولية، لدرجة أنّ أحد ممثلي الدول العربية، المتبنية لفكرة تجديد السلطة، صاح في وجه ممثل السلطة في أحد الاجتماعات قائلًا له: "إن رئيسك قد غيّر جواربه لا حكومته"، في إشارةٍ إلى أنّ تغيير الحكومة كان مجرد إجراءٍ شكليٍ، لا سيّما أنّه ترافق مع تعزيز صلاحيات مكتب الرئيس على حساب صلاحيات الحكومة.
مؤخرًا عاد الرئيس عباس إلى العزف على وتر الإصلاحات، في ظلّ التوصل إلى هدنةٍ هشةٍ في قطاع غزّة، وتعثر المفاوضات مع الإصرار الأميركي والإسرائيلي على عدم وجود حماس وفصائل المقاومة عمومًا، عسكريًا وسياسيًا، في المشهد الفلسطيني، خاصّةً في قطاع غزّة. وقد ترافق ذلك مع خطواتٍ أخرى أخذت السلطة تنفذها على الأرض، نوعًا من إثبات الجدارة على قدرتها على تولي المهمة في قطاع غزّة، منها شن عمليةٍ عسكريةٍ على المقاومة في مخيم جنين، كان لها الأثر المهم في تمهيد الطريق لعملية الاحتلال المستمرة حاليًا، التي لم تتوقف السلطة خلالها عن ملاحقة المقاومة، والعمل بطريقةٍ مشتركةٍ مع قوات الاحتلال في تصفية المقاومة. وتبعها إصدار الرئيس عباس قرارًا بوقف مخصصات الأسرى والشهداء والجرحى، وهو المطلب الإسرائيلي الذي تعالى في السنوات الأخيرة، على اعتبار أن هذه المخصصات هي "تمويلٌ للإرهاب". ما يدعو إلى الاستغراب، ونحن نتحدث عن إصلاحاتٍ، مسارعة الرئيس عباس إقالة رئيس نادي الأسير الفلسطيني قدّورة فارس لأنّه انتقد قراره بوقف المخصصات.
أثار رئيس السلطة زوبعةً بإعلانه، خلال القمة العربية الطارئة لمناقشة الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة بديلًا عن التصور الذي طرحه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، القاضي بتهجير الغزيين وتحويل غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، عن جملةٍ من الإصلاحات التي يعتزم تنفيذها في بنية السلطة وحركة فتح، التي تنوعت بين العفو عمّن فصلهم من حركة فتح، واستحداث منصب نائب رئيس، وتجديد الدماء في المؤسسات. وعلى الرغم من الطابع الشكلي لجملة الإصلاحات المعلن عنها، ومن عدم استجابتها للمطالب الشعبية، والمؤسسية الفلسطينية، إلّا أنّها محاولةٌ لتعزيز موقفه أمام المانحين العرب، خاصّةً الإمارات والسعودية، اللتين تصرّان على إصلاح السلطة، ضمن تصورهما لدورها ضمن مشروعٍ إقليميٍ أكبر؛ فما أن عاد الرئيس عباس إلى رام الله حتّى بدأت تتبين حقيقة تلك الإصلاحات، بأنّها أبعد ما تكون عن إصلاحاتٍ حتّى ولو شكليًا، إذ أنّها ليست سوى محاولاتٍ لترسيخ هيمنة الرئيس شخصيًا على المؤسسات كافة، بما فيها الأجهزة الأمنية، التي عيّن لقياداتها ضباطًا من حرس الرئاسة، الذين يدينون بالولاء له شخصيًا، ما يعني أن تلك الزوبعة ليست سوى تغييرٍ لبعض الشخصيات والمسميات أو إعادة تدويرها، بما في ذلك منصب نائب الرئيس الذي ينظر إليه على أنّه مجرد خطوةٍ استباقيةٍ لمواجهة سيناريو عودة مروان البرغوثي إلى المشهد في حال تحرره ضمن صفقات التبادل مع المقاومة.
موضوعٌ آخر لا يقلّ أهمّيةً، هو مسألة العفو عن المفصولين من فتح، فعلاوةً على كونه كلامًا مبهمًا لا يحدد من هم المفصولون، في حين يشار إلى محمد دحلان وتياره، وناصر القدوة كمقصودين بهذا "العفو"؛ فإن مشكلة فتح ليست مجرد عددٍ من الشخصيات المفصولة، التي تنتهي مشكلات الحركة بعودتهم إلى "بيت الطاعة". فقد عمل الرئيس عباس خلال سنوات رئاسته الجبرية على تدمير حركة فتح نفسها، وتحويلها من حركة تحررٍ وطنيٍ إلى حزب سلطةٍ قائمٍ على الولاء للنظام، من خلال نسج العلاقات الزبائنية، وشراء الولاء عن طريق خلق طبقةٍ كاملةٍ من الموظفين والمرتبطين عضويًا ببقاء السلطة، أو من خلال سياسات المنع والإقصاء والتحييد للعناصر التي لا تعلن الولاء المطلق للرئيس وحاشيته وتوجهاته، أو التي تحاول أن تستنهض الحركة بجهودٍ ذاتيةٍ، أو من خلال أطر الحركة الرسمية. إذ أظهرت حرب الإبادة، وما تبعها من عدوانٍ على الضفّة الغربية أنّ حركة فتح أصبحت غائبةً عن المشهد، كما أنّها لا تستطيع حشد بضع مئاتٍ من المتظاهرين، حتّى في ذكرى انطلاقتها، من دون التطرق لغيابها عن ساحة مواجهة الاحتلال، واعتداءات مستوطنيه، حتّى على سبيل المقاومة الشعبية السلمية، التي ينظّر لها الرئيس عباس نفسه.
من المعلوم أنّ الرئيس عباس قد اختار التغيب دائمًا، أو تعطيل مخرجات لقاءات الفصائل والتنصل منها، خاصّةً بين حركتي فتح وحماس
من ناحيةٍ أخرى، فإنّ مسألة العفو بالصيغة التي يطرحها الرئيس عباس تجعل الأمر يبدو كأنّه يتعامل مع حركة فتح، ومنظّمة التحرير من ورائها، على أنّها ملكٌ خاصٌ له، فيفصل من يشاء ومتى يشاء، ويعفو عمّن يشاء متى يشاء، من دون أن يعمل هو من ناحيته على مراجعاتٍ وإصلاحاتٍ في مؤسساته وسياساته سواء الحركية أو الوطنية، وكأنّه يتصرف مع الناس بطريقةٍ أبويةٍ تخوّله صلاحية العفو عن أحد أبنائه العاقين.
عندما يتحدث الرئيس عباس عن الدماء الجديدة في مؤسسات الحركة و"الدولة"، فهذه الدماء الجديدة لا تشمله شخصيًا، وهو ناهز التسعين من عمره، ولا يزال متشبثًا بحكم السلطة، التي فعليًا لا يحكمها بالأمر الواقع منذ ما يقارب 15 عامًا، بعد أن انتهت مدّة ولايته القانونية عام 2009. فعندما أعلن في القمة العربية على أنّه عازمٌ على إجراء انتخاباتٍ عامّةٍ في الضفّة والقطاع والقدس الشرقية، أردف قائلًا متى توفرت الظروف الملائمة، مذكّرًا بأنّ الاحتلال لم يأذن بإجراء الانتخابات في القدس الشرقية، ما اضطره إلى إلغاء الانتخابات التشريعية عام 2021، ما يعني أنّ حديثه عن الانتخابات ليس إلّا "ضحكًا على اللحى" كما يقال فلسطينيًا. وفي مقابل ذلك فهو يسعى إلى تهيئة خليفةٍ له، من خلال استحداث منصب نائب الرئيس، في التفافٍ على الإرادة الشعبية والوطنية.
في المحصلة، فإنّ الإصلاحات التي أعلن عنها الرئيس عباس، على كلّ عيوبها من شكليتها وتجاوزها لاستحقاقاتٍ وطنيةٍ أولى، وكونها أداةٌ لترسيخ الهيمنة وليس العكس، فإنّ إشكاليتها الكبرى تظلّ في أنّ الشعب الفلسطيني لا يسأل عنها ولا له رأيٌ فيها، إنّما تفرض عليه فرضًا، على أسلوب "فرماناتٍ سلطانيةٍ"، سواء أكان راضيًا عنها أم لا، أو أكان يراها تعبّر عما يريده أم لا. والأدهى أنّ الرئيس عباس لا يزال متشبثًا بتلابيب السلطة، ويقدم لأجلها التنازلات أو "الإصلاحات"، ويحاول تهيئتها لمن سيخلفه، وللمفارقة ليس أحد أبنائه، كعادة الأسر الحاكمة في منطقتنا، وهو أمرٌ يدعو إلى التعجب فعلًا؛ في حين يتلاشى الوطن من حوله، وتتقلص صلاحياته هو والسلطة برمتها، ومشروع الضم والتهجير والإبادة يسير بسرعته القصوى نحو "حسم الصراع".