القرار 1701 معززاً في لبنان… قراءة تاريخية

30 ديسمبر 2024
الجيش اللبناني يتفقد قرية الخيام بعدما قصفها الاحتلال الإسرائيلي 12/12/2024 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يعكس اتفاق وقف إطلاق النار المؤقت في لبنان وقرار مجلس الأمن 1701 تعقيدات تاريخية، حيث لعب لبنان دورًا محوريًا في تأسيس الجامعة العربية ومواجهة الاستعمار الصهيوني، واستقبل اللاجئين الفلسطينيين بعد النكبة.

- شهد لبنان محطات تاريخية مهمة مثل الغزو الإسرائيلي عام 1982 والحرب الأهلية، واستمرت التحديات بعد اتفاق الطائف مع اغتيال رفيق الحريري وهيمنة حزب الله.

- تحول حزب الله إلى ذراع إقليمي لإيران، مما أثر على استقرار لبنان، ويعد القرار 1701 فرصة لإعادة بناء لبنان بعيدًا عن الهيمنة الخارجية.

جاء اتّفاق وقف إطلاق النار المؤقت في لبنان، والتنفيذ المعزز لقرار مجلس الأمن 1701 أعقد وأعمق بكثيرٍ من مجرد هدنة مؤقتة ووقف إطلاق نار لمدّة شهرين للحرب الإسرائيلية ضدّ حزب الله في لبنان، بل بدا وكأنّه يطوي صفحةً، بل صفحات، من تاريخ هذا البلد الصغير الجميل والمقاوم على طريقته منذ تأسيسه.

حتّى مع الملاحظات على تأسيس لبنان واستقلاله عن فرنسا، واقتطاع مساحاتٍ واسعةٍ من سورية التاريخية، خط البلد مساره المدني الديموقراطي مبكرًا جدًا، وعلى طريقته، رغم الثغرات التي كان بالإمكان حلّها بأساليب سلميةٍ وديموقراطيةٍ، ومن دون الذهاب إلى الحرب، لولا العوامل الخارجية. كما استخدم من جهةٍ أخرى إمكانياته وقدراته ضمن العمل العربي المشترك في مواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين، الذي مثّل خطرًا على البلاد والمنطقة العربية عامةً.

بتفصيلٍ أكثر، كان لبنان حاضرًا في تأسيس الجامعة العربية، التي نصرت فلسطين، وكانت مواجهة المشروع الاستعماري فيها أحد أهمّ أسباب تأسيسها وحيثياته بهذه الفترة، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كما كان حاضرًا كذلك في أجواء المقاطعة، والعمل العربي المشترك متعدد المستويات والأبعاد ضدّ الاحتلال الإسرائيلي.

أعلن حزب الله، وحلفاؤه، عما سمّاه معركة "المساندة والمشاغلة"، لكن من دون تطبيقٍ فعليٍ لمصطلح "وحدة الساحات"

بعد النكبة الأولى، عام 1948، استقبل لبنان أيضًا اللاجئين الفلسطينيين، ولو على غير ما يرتجى مع عدم إعطائهم حقوقهم المدنية والاقتصادية والاجتماعية، وهو ما كان ليتحقق حتمًا مع الوقت بأساليب سلميةٍ وديموقراطيةٍ قبل طغيان العسكرة، وانتقال الثورة الفلسطينية إلى لبنان في نهاية ستينيات القرن الماضي. مع ضرورة الانتباه إلى الدور المهم والمركزي الذي لعبه اللاجئون الفلسطينيون في نهضة البلاد، على كلّ المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والفنية.

هنا ثمّة معطىً مهمٌّ ومركزيٌ يجب التوقف عنده، ولا يمكن المرور عنه سريعًا منه، يتمثّل بفشل الدول العربية الكبرى في تحرير فلسطين، وإلقاء هذه المهمّة الجسيمة، بعد نكبة يونيو/حزيران 1967 على عاتق البلد الصغير والجميل، الذي كان قد اتخذ المسار المدني الديموقراطي ولكن الهشّ، أي الذي لم يكن قد ترسخ كما ينبغي.

مثل انتقال الثورة الفلسطينية إلى لبنان، رغم النجاحات التي تحققت والدعم الشعبي من فئاتٍ متعددةٍ لقضية العرب المركزية، تحميلًا للبلد أكثر مما يحتمل، وللأسف كان العامل الفلسطيني حاضرًا في اندلاع الحرب الأهلية، التي استمرت عقدًا ونصف تقريبًا، حتّى توقيع اتّفاق الطائف عام 1989.

أثناء الحقبة الفلسطينية؛ كانت محطة الغزو الإسرائيلي للبنان 1982 واحدةً من أهمّ المحطات في تاريخ البلد، وارتبطت ارتباطًا مباشرًا بما عاشه خلال العقود الأربعة الماضية، ومثّلت محطةً فارقةً ومهمّةً في تاريخ الثورة الفلسطينية ولبنان. مع قرار الانسحاب التاريخي، للشهيد ياسر عرفات، ومغادرة بيروت، بعد الصمود الأسطوري لتحاشي تدمير المدينة الجميلة والمحببة، رغم احتلالها حيّزًا مهمًّا ومركزيًا في الوجدان الفلسطيني، ومع نقل الصراع والمقاومة إلى مكانهما الطبيعي في الداخل، بموازاة مواصلة المقاومة ضدّ الاحتلال الإسرائيلي في بيروت والجنوب، وفق إرث الثورة الفلسطينية العميق والمتجذر من قبل جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول)، التي أُجهضت وصفى نظام الأسد الأب قادتها، ومن ثم حولت المقاومة إلى مقاومةٍ طائفية بأمر نظامي آل الأسد وإيران.

رغم ذلك؛ بقي المزاج العام في لبنان داعمًا للمقاومة، ما أجبر "ضمن أسبابٍ أخرى" إسرائيل على الانسحاب لاحقًا، ومن ثمّ ساهم في تحقيق الانتصار عام 2000، الذي يعد أيضّا أحد أهمّ علامات تاريخ البلد ومحطاته المهمّة.

بعد ذلك سارت الأمور في سياقٍ مختلفٍ ومناقضٍ تمامًا، إذ تم اختراع قصة مزارع شبعا السورية، الخاضعة لقرار مجلس الأمن رقم "242" لا القرار رقم "425"، والتمسك العدمي والعبثي بالسلاح من قبل حزب الله رغم دحر الاحتلال، "على طريقة عنزة ولو طارت"، من أجل مواصلة الانقلاب على اتّفاق الطائف 1990، الذي أنهى الحرب والفوضى، علمًا أن الانقلاب عليه قد بدأ فعليًا صباح اليوم التالي لاغتيال النظام السوري، وأدواته المحلية، الرئيس المنتخب رينيه معوض، بغرض فرض وصاية نظام آل الأسد الأمنية على البلاد كلّها.

كان لبنان حاضرًا في تأسيس الجامعة العربية، التي نصرت فلسطين، وكانت مواجهة المشروع الاستعماري فيها أحد أهمّ أسباب تأسيسها

بعد ذلك؛ مثّل اغتيال النظام السوري، وأدواته، رئيس الوزراء، رفيق الحريري، عام 2005، الذي قاد مشروع النهوض والتعافي بعد الحرب والطائف، منعطفًا مهمًّا كذلك في هيمنة حزب الله على البلد وفرض وصايته، خصوصًا مع إجبار ثورة الثامن من مارس/آذار جيش نظام الأسد على الانسحاب سلميًا، ومن دون نقطة دمٍ واحدةٍ.

تلت ذلك محطة حرب 2006، والانتصار المزعوم والدعائي فيها، رغم تدمير إسرائيل مناطق واسعة في الضاحية والجنوب، ورغم اعتراف حسن نصر الله بالهزيمة في تصريحه الشهير "لو كنت أعلم". انتهت الحرب بإصدار مجلس الأمن الدولي القرار "1701"، الذي عمل من أجله رئيس الوزراء السابق، فؤاد السنيورة، بمظلةٍ سياسيةٍ ودبلوماسيةٍ واسعةٍ في بيروت ونيويورك، كما رعت الدول العربية عملية إعادة الإعمار بعدها، رغم ذلك وجه الحزب سلاحه إلى الداخل في مايو/أيّار 2008، وضدّ البيئة الشعبية، التي احتضنت النازحين، ووفرت مظلةً عربيةً ودوليةً داعمةً للنهوض والتنمية والمصالحة الداخلية، بهدف هيمنة الحزب على البلاد وقراراته وسلطاته كافّة بقوّة السلاح والتدمير الممنهج لقدراته وإمكانياته وثرواته الاقتصادية، وخلق دويلةٍ بل سلطةٍ موازيةٍ، كما تبدى في كارثة انفجار المرفأ، التي عبرت عبر عن سطوة الحزب، وما فعله بالبلد الصغير الجميل والمقاوم.

في هذا الحقبة؛ تحول الحزب أيضًا إلى ذراعٍ إقليميٍ مركزيٍ للسياسة الإيرانية، كما تبجح بالقتال تحت وصاية الاحتلالين الأميركي في العراق، والروسي في سورية. ثمّ ابتدع مصطلح "وحدة الساحات" مع تطبيع حركة حماس علاقاتها مع إيران والحزب ونظام الأسد عام 2017، وتبييض صفحة إيران ومحورها، وإغراء أو تقديم جزرةٍ لحماس بعد عودتها وانضمامها إلى المحور، وتبييض صفحته بأثرٍ رجعيٍ، ونزع الطابع الطائفي عنه، وإعطائه الطابع المقاوم.

مع ارتكاب إسرائيل جريمة إبادةٍ في غزّة، وتدميرها عن بكرة أبيها تقريبًا، أعلن حزب الله، وحلفاؤه، عما سمّاه معركة "المساندة والمشاغلة"، لكن من دون تطبيقٍ فعليٍ لمصطلح "وحدة الساحات"، كما نُظّرَ له خلال السنوات السبع الماضية، وبلا تأثير جدي على مجريات الحرب والإبادة في غزّة، في حين استغلت إسرائيل المصطلح لتوجيه ضرباتٍ قاصمةٍ للحزب وقيادته السياسية والعسكرية، وبيئته الحاضنة.

عمومًا؛ مثّلت العودة إلى القرار 1701، ولو بطريقةٍ معززةٍ، وتحت رقابةٍ أميركيةٍ دوليةٍ صارمةٍ، نهاية المحور كلّه، كما نهاية الوصاية الإيرانية على لبنان والمنطقة العربية، خاصّةً بعد سقوط نظام بشار الأسد في سورية، ونأي الحكومة العراقية بنفسها عن السياسات الإيرانية الانتهازية والمدمّرة. لكن ومن جهةٍ أخرى، بتنا أمام فرصةٍ لإعادة بناء لبنان واقتصاده وكيانه وخصوصيته، كونه المقاوم دومًا سياسيًا وفكريًا وثقافيًا وفنيًا، على طريقته بعيدًا عن هيمنة إيران ونظام الأسد والاستلاب لهما.

هنا لا بدّ من الانتباه أيضًا إلى العودة الصحيحة لفكرة إن "تحرير فلسطين هي مهمّة الدول العربية مجتمعةً"، مع امتلاك الشعب الفلسطيني الحقّ الأخلاقي والقانوني والسياسي لمقاومة الاحتلال بكل السبل والوسائل المتاحة، ضمن جهدٍ عربيٍ جماعيٍ رسميٍ وشعبيٍ منسقٍ ومتعدد المستويات، لمساعدته وتمكينه من تحقيق آماله الوطنية المشروعة في العودة والسيادة والاستقلال وتقرير المصير.

المساهمون