استمع إلى الملخص
- نجاح الاتفاق قد يعزز قوة إيران ويدفع دول الخليج للتطبيع مع إسرائيل، مما يقلل من أهمية القضية الفلسطينية، بينما فشل الاتفاق قد يؤدي إلى عقوبات أو ضربة عسكرية تستغلها إسرائيل ضد الفلسطينيين.
- يجب على القيادة الفلسطينية تعزيز التنسيق مع دول الخليج والوحدة الداخلية لمواجهة التحديات وضمان عدم تهميش القضية الفلسطينية في أي تطورات إقليمية.
لطالما وضعت إسرائيل نفسها في جوهر أيّ اتّفاقٍ ممكن بين الولايات المتّحدة وإيران، سواء كان حول النشاطات النووية، أو قدرات إيران الصاروخية، مدعيةً بأنّ مثل هذا الاتّفاق يمس بمصالح إسرائيل الأمنية، وبالتالي فإنّ تل أبيب تنصب نفسها وصيةً على فحوى الاتّفاق وما ينص عليه. وبالقدر نفسه يجدر التساؤل في ما إذا كان من الممكن أن يؤثر اتّفاقٌ أميركيٌ – إيرانيٌ محتملٌ على القضية الفلسطينية. الإجابة المختصرة أن مثل هكذا اتّفاق سيكون له انعكاساتٌ مهمةٌ على القضية، وعلى القيادة الفلسطينية. كيف نأخذ ذلك بعين الاعتبار؟ وكيف نستعد من الآن للتعامل مع هذا الأثر؟
انتهت الجولتان الأولى والثانية من المفاوضات غير المباشرة بين واشنطن وطهران في مسقط وروما على التوالي، وأطلق كلا الطرفين تصريحاتٍ إيجابيةً بشأن المفاوضات والاتّفاق على جلسةٍ ثالثةٍ بعد ذلك بأسبوع. الاتّفاق ممكنٌ، لكنه ليس حتميًا، والكثير من المؤشرات توحي بذلك، أهمّ هذه المؤشرات؛ توافر الإرادة السياسية لدى الطرفين المتفاوضين. امتلاك الإرادة السياسية لكليهما ينبع من عوامل عدّة أهمّها بالنسبة لإيران أنّها في أضعف أحوالها السياسية منذ عقودٍ، وذلك بعد النكسة التي حلت بحلفائها في المنطقة، أو ما يسمى بفواعل "محور المقاومة"، المتمثّلة بسقوط النظام السوري، وتراجع القوّة العسكرية لكلٍّ من حزب الله وحماس. بالإضافة لذلك، فقد جاء الرئيس الإيراني المنتخب مسعود بازشيكيان بأجندةٍ اقتصاديةٍ منذ اليوم الأول لانتخابه، التي تتحقق حسب برنامجه بالانفتاح على المجتمع الدولي، وإزالة العقوبات/ التي تتحقق من خلال كبح البرنامج النووي الإيراني فقط. وللتدليل على توفر الإرادة السياسية الإيرانية للتوصل لاتّفاق؛ منح المرشد الروحي وزير خارجيته عباس عراقجي "صلاحياتٍ كاملةً" للتوصل لاتّفاق. أما ترامب، فإنّ أجندته الدولية، وليس الإيرانية فقط، اقتصاديةٌ بامتياز، وما الحرب التجارية التي أعلنها على العالم، من خلال فرض الضرائب على صادراتهم إلى الولايات المتّحدة، إلّا مؤشرٌ على ذلك. طبعًا؛ الإدارة الترامبية ملتزمةٌ بعدم تطوير إيران قنبلةً نوويةً، وهذا ممكنٌ من خلال كبح النشاطات النووية الإيرانية، وليس بالضرورة تفكيك البرنامج النووي الإيراني "السلمي" كما يطالب بنيامين نتنياهو، وعليه فمن الممكن لترامب أن يوافق على ضمانات تضمن للولايات المتّحدة عدم تصنيع إيران قنبلةً نوويةً، إذا ما تم وضع مثل هذا العرض في صيغةٍ اقتصاديةٍ يصعب على ترامب رفضها.
بكل الحالات، في حال نجح الطرفان بالتوصل لاتّفاقٍ نوويٍ أم فشلا، فإن ذلك سينعكس على القضية الفلسطينية، لذا على القيادة الفلسطينية الاستعداد لكل السيناريوهات من الآن
ستمثّل مثل هذه الصيغة؛ إذا ما تم التوصل لها، نقطة الصدام الأولى بين ترامب ونتنياهو، الذي لن يرضيه أقلّ من تفكيك البرنامج النووي، أو ما يسميه بـ"النموذج الليبي"، الذي قام خلاله العقيد معمر القذافي عام 2003 بتفكيك أجهزة الطرد المركزي، وتسليم مكونات برنامج أسلحة الدمار الشامل، الذي عكف العقيد على تطويره لسنواتٍ عدّة، إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية. من الممكن للقيادة الإيرانية أن تقدم التنازلات المهمّة لتجنب مواجهةٍ عسكريةٍ مع الولايات المتّحدة، لكن تفكيك البرنامج النووي، وتسليم مكوناته هو خطٌ شديد الاحمرار لطهران، الذي من المستبعد أن تقبل به، حتّى ولو أدى ذلك إلى احتمالات المواجهة العسكرية مع واشنطن. لقد حققت طهران بالتفاوض مع الولايات المتّحدة وأوروبا (5+1)، عام 2015 بالاتّفاق الذي توصلت إليه مع باراك أوباما، قبولًا أوروبيًا وأميركيًا بحقّ إيران بتخصيب اليورانيوم بنسبة 3.67% وعدد 6 آلاف جهاز طردٍ مركزيٍ، ولن تقبل بالعودة إلى صفر في كليهما، كما يطالب نتنياهو.
فرضية الصدام المحتمل بين ترامب ونتنياهو، حول طريقة التخلص من الخطر النووي الإيراني (تفكيك البرنامج مقابل كبح وسلمية البرنامج)، يعززها اللقاء الذي حدث بين الاثنين عندما استدعي نتنياهو إلى البيت الأبيض، وأشارت معظم التقارير والتحليلات الصحافية إلى أنّ الاجتماع لم يكن على ما يرام بين الرجلين. لا بل أشارت بعض التقارير إلى أن بعض رموز الإدارة الأميركية، تحديدًا وزير الخارجية ماركو روبيو، ومستشار الأمن القومي مايك والتز يأخذان موقفًا أكثر تشددًا في التعامل مع طريقة معالجة النشاطات النووية الإيرانية، يقتربان فيه أكثر إلى موقف نتنياهو، الداعي إلى تفكيك البرنامج، بدلاً من موقف ترامب الذي يميل نحو كبح البرنامج وضمان سلميته مع حزمةٍ اقتصاديةٍ يستفيد منها.
عندما احتجت إسرائيل على سماح الولايات المتّحدة لإيران بالتخصيب بهذه النسب عام 2015؛ وقع أوباما اتّفاقية مساعدات مالية بقيمة 38 مليار دولار لإسرائيل لشراء صمتها، وبما أنّ ترامب معروفٌ عنه عدم دفع الأموال بل أخذها، فإنّه، وكعادته، سيكون أكثر سخاءً ولكن على حساب غيره، ويخشى بهذه الحالة أن يغدق على نتنياهو لشراء صمته بتنازلاتٍ في القضية الفلسطينية، وتحديدًا السماح بضم أراضي في الضفّة الغربية، و/أو المضي في مشروع التهجير في قطاع غزّة. ترامب ليس له مشكلة بذلك، طالما أن تعويض إسرائيل عن اتّفاقيةٍ غير مرضيةٍ سيكون على حساب الفلسطينيين، وهو النهج الذي اتبعه في فترة ولايته الأولى، عندما قدم ما سمي وقتها بـ"صفقة القرن"، التي تحول الأراضي الفلسطينية إلى كانتونات مقطعة الأوصال، مقابل تطبيعٍ بين إسرائيل وعددٍ من الدول العربية يطوله منها نصيبٌ اقتصاديٌ.
بكل الأحوال، وفي حال التوصل لاتّفاقٍ بين أميركا وإيران يقل عن تفكيك البرنامج النووي الإيراني، وهو أمرٌ مستبعدٌ، ستراه حكومة نتنياهو بالضرورة مفيدًا لإيران، ومطلقًا يدها في المنطقة، وعليه ستقوم بالتشدد بدرجةٍ أكبر مما عليه الوضع الراهن في إدارة المناطق الفلسطينية المحتلة، كون "إيران قوية" سيمكنها ذلك من التواصل مع حلفائها التقليديين في فلسطين، أي حركتا حماس والجهاد الإسلامي. وهنا أيضًا ستتحمل القضية الفلسطينية "ثمنًا إسرائيليًا" لخروج إيران قوية من الاتّفاق، أو على أقلّ تقدير ليست محطمة، وغير قادرةٍ على التواصل مع حلفائها الإقليميين كما ترغب حكومة نتنياهو.
ستمثّل مثل هذه الصيغة؛ إذا ما تم التوصل لها، نقطة الصدام الأولى بين ترامب ونتنياهو، الذي لن يرضيه أقلّ من تفكيك البرنامج النووي، أو ما يسميه بـ"النموذج الليبي"
من جهةٍ أخرى، فإذا حقق الاتّفاق مكاسب لإيران كوصولها إلى قسمٍ من ملياراتها المجمدة مثلاً، ويزيد من قوتها في المنطقة، وغير مُرضٍ لجيرانها العرب، والذين قد يرون به تمددًا للنفوذ الإيراني، فإن ذلك سيفتح شهية دول الخليج للتطبيع مع إسرائيل، في محاولةٍ للبحث مرّةً أخرى عن توازن في النظام الإقليمي مع إيران، وللتذكير فقد رأينا بدأ الانفتاح تجاه التطبيع مع إسرائيل مباشرةً بعد الاتّفاق النووي بين إيران ودول ال (5+1) عام 2015. طبعًا، توجه دول الخليج نحو التطبيع مع إسرائيل، والبحث مرّةٍ أخرى عن توازنٍ في النظام الإقليمي، سيقلل من أهمّية القضية الفلسطينية، وسيدفع الفلسطينيون ثمن التقارب الخليجي-الإسرائيلي مرّةً أخرى.
لكن يجدر التساؤل ماذا لو لم تفضِ المفاوضات الحالية بين ترامب وإيران إلى التوصل لاتّفاق بين الطرفين، وهذه طبعًا مسألةٌ واردةٌ وتبقى خيارًا على الطاولة. من المستبعد جدًا أن يترك ترامب إيران بحالها إذا فشلت المفاوضات، والتي يرفض حتّى أن تأخذ وقتًا طويلًا. في فترة ولايته الأولى، عندما رفضت إيران التوصل لاتّفاق معه، فقد قام بفرض ما اسماه سياسة العقوبات القصوى (maximum pressure policy)، التي شهدت بالفعل فرض أقسى العقوبات تاريخيًا، من قبل الولايات المتّحدة على إيران، وتخللها أيضًا بعض المناوشات العسكرية، اغتيال رئيس فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني. في حال فشل المفاوضات النووية هذه المرّة أيضًا، فإنّ الرد الأميركي سيتراوح ما بين "العقوبات القصوى" والضربة العسكرية المباشرة للمنشآت النووية الإيرانية. في كلتا الحالتين، فإنّ ذلك سيقود إلى رفع نسبة التوتر الإقليمي – وليس بالضرورة الحرب الإقليمية – التي سيستغلها رئيس الوزراء الإسرائيلي، وقد عرف عنه انتهازيته باقتناص الفرص على حساب غيره، ليقوم باتخاذ إجراءاتٍ يحقق فيها مكاسب على حساب القضية الفلسطينية إن وجدَ الإقليم منشغلًا بما هو أكبر، مواجهةٍ إقليميةٍ مثلًا.
بكل الحالات، في حال نجح الطرفان بالتوصل لاتّفاقٍ نوويٍ أم فشلا، فإن ذلك سينعكس على القضية الفلسطينية، لذا على القيادة الفلسطينية الاستعداد لكل السيناريوهات من الآن، خصوصًا أنّها تواجه طرفًا إسرائيليًا يحمل مشروعًا استعماريًا إحلاليًا سيحاول تجيير كلّ الظروف لتنفيذه على أرض الواقع. لتحقيق الجاهزية لسيناريوهات ما بعد المفاوضات فإنّ القيادة الفلسطينية مدعوةٌ أولاً لفتح خطوط التنسيق مع دول الخليج العربي، كونها ذات التأثير الأكبر على ترامب، بسبب التداخلات الاقتصادية بينهما. هذا التنسيق من الممكن أنّ يؤثر في ما يمكن لترامب أنّ يغدقه على نتنياهو بعد الاتّفاق ألا يكون على حساب القضية الفلسطينية، وأيضًا، ضمان أن أيّ تطبيعٍ خليجيٍ-إسرائيليٍ، إن حصل مستقبلًا، لن يكون على حساب القضية الفلسطينية.
إضافةً إلى ذلك، فإن تعزيز الوحدة الداخلية الفلسطينية، والاتّفاق على رؤيا فلسطينية لمواجهة الضم والتهجير، هي ما على الفلسطينيين العمل من أجله اليوم، حتّى لا يكون أي تحركٍ لإحباط ذلك متأخرًا إذا ما لجأ ترامب لشراء صمت إسرائيل على اتّفاقٍ نوويٍ مع إيران.