ليس بعيداً من جدلية الهزيمة والانتصار

28 يناير 2025
+ الخط -

تصاعد النقاش الفلسطيني بشأن دلالات وقف إطلاق النار في غزّة وتبادل الأسرى، وتداعياته، منذ دخوله حيّز التنفيذ، بين من اعتبره انتصاراً مطلقاً، ومن اعتبره هزيمةً موصوفةً. كما تجدّد النقاش نفسه يومياً، بعد كلّ تطورٍ محلّي أو إقليمي أو دولي، لا سيّما في أعقاب تسليم حركة حماس الدفعة الثانية من أسرى الاحتلال، وبعد تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب المطالبة مصر والأردن بالتعاون مع الاحتلال وأميركا من أجل ترحيل الفلسطينيين قسراً من قطاع غزّة (أو قسمٌ منهم) عبر استضافتهم في أراضيهما، وسواهما من الأحداث والتصريحات شبه اليومية.
من ناحيةٍ عملية؛ لا يعتقد كاتب المقالة أنّ هذا الجدل قابلٌ للحسم، إذ يعكس الجدل في ثناياه مواقفَ أصحابه المسبقة من كلٍّ من المقاومة وحركة حماس والسلطة الوطنية الفلسطينية، تلك المواقف التي قد تعكس مصالح أصحابها بطريقةٍ ما. من هنا يجد الكاتب أنّ الغالبية العظمى ممّن يصرّون على مصطلح هزيمة فصائل المقاومة في قطاع غزّة هم ممّن تمنّى هزيمتها منذ 7 أكتوبر (2023)، بل وممّن تمنّى سحقها صهيونياً قبل "طوفان الأقصى" وبعده، فهم لا يُقدِّمون مصالحهم الشخصية على المصلحة الوطنية فقط، بل ويسمحون لأحقادهم وغضبهم الذاتي والجماعي (المحقّ أحياناً) بالتحكّم برؤيتهم وبأمنياتهم، متجاهلين انعكاسات هزيمة فصائل المقاومة الكارثية على مجمل الفلسطينيين، بما فيهم هم أنفسهم، لذا فمعظمهم لم يبذل جهداً في دعم صمود المقاومة ونجاحها، بقدر ما بذل من جهدٍ في الطعن بالمقاومة والتقليل منها. لكن نظراً إلى أنهم من أصحاب المواقف المسبقة، المستندة إلى أهواءٍ أو أحقادٍ أو مصالحٍ، هنا أو هناك، فمن العبث الدخول في نقاش معهم الآن.

لم تهزم المقاومة، كما لم يهزم الشعب الفلسطيني، الذي كان صموده العامل الأهمّ في صمود المقاومة وإفشال مخطّطات الاحتلال

على صعيدٍ موازٍ، يجد كاتب المقالة في خطاب النصر إشكالياتٍ كبيرةً ومتراكبةً، بسبب المبالغة والتسرّع اللذين قد يحوّلان أيّ انتصارٍ كان هزيمةً ساحقةً، ولنا أمثلةٌ تاريخيةٌ كثيرةٌ على ذلك. فبكلّ تأكيدٍ لم تهزم المقاومة، كما لم يهزم الشعب الفلسطيني، الذي كان صموده العامل الأهمّ في صمود المقاومة أصلاً، وفي إفشال مخطّطات الاحتلال، لكن هل انتهت المواجهة الراهنة؟ فالاتّفاق الحالي، رغم الضمانات الأميركية والقطرية والمصرية، غير مضمون مستقبلاً، فالكذب الأميركي كثيرٌ وكبيرٌ، والتلاعب الصهيوني شبه يومي، ليس على الفلسطينيين فقط، بل أيضاً على شعوب المنطقة والعالم، فضلاً عن دوله، بما فيها الولايات المتّحدة أيضاً. ليس ذلك فحسب، بل سيتبع المواجهة العسكرية مواجهات أخرى، سياسية واقتصادية واجتماعية، وربّما قانونية وثقافية، بل قد لا تقل حدّة وصعوبة تلك المواجهات عن المواجهة العسكرية، كما قد ينجح الاحتلال في استخدامها أداةً لقتل الفلسطينيين وتهجيرهم قسراً، ليس من بيوتهم فحسب، بل ومن فلسطين كلّها أيضاً.
بناءً على ذلك، علينا الانطلاق من أننا ما زلنا في مواجهةٍ مستمرّةٍ. وعليه، من المبكّر الحديث عن الانتصار والهزيمة، مع التأكيد على التفوّق الفلسطيني شبه الشامل حتّى الآن، سواء على الصعيد الشعبي الميداني أو العسكري المقاوم، أو الاستخباراتي، أو على صعيد كسب الرأي العام الشعبي الدولي، والمعارك القضائية والإعلامية والثقافية، في مقابل نجاح الاحتلال على صعيد الإجرام، وفي معركتَي الرأي العام العالمي والاقتصاد، ليس بفعل قواه الذاتية، بل بفعل الدعم الأميركي غير المسبوق.
فاق الصمود الفلسطيني في قطاع غزّة التصوّرات، كما كسر القواعد كلّها، فهو صمودٌ أسطوريٌ لا يمكن لعقلٍ أنّ يتخيّله، كما أدّت فصائل المقاومة، وتحديداً كتائب عزّ الدين القسّام، أداءً أسطورياً أيضاً، سواء في "طوفان الأقصى"، أو في التصدّي لعدوان الإبادة الجماعية، وفي إفشال مخطّطات الاحتلال واحدا تلو الآخر. لكن؛ ورغم أسطورتي الأداء الشعبي والكتائبي، إلّا أن احتمال نجاح الاحتلال في تهجير الفلسطينيين، أو في كسر المقاومة، أو في إعادة عزل القطاع فلسطينياً وإقليمياً ودولياً، ما زال قائماً، رغم احتماليته الصغيرة اليوم. لكن تعلّمنا من تجاربنا الفلسطينية أن الأيّام دُوَلْ، ولكلّ يومٍ حساباته، رغم أنّها لا تقطع مع سابقها أو لاحقها كلّياً، وعليه فمن أراد الانتصار، شعباً ومقاومةً، عليه العمل يومياً من أجل ذلك، بمعنى عليه المشاركة في إفشال مخطّطات الاحتلال وداعمه الأميركي عسكرياً وسياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وإعلامياً وقانونياً. ليس ذلك فسحب، بل علينا أيضاً تطوير أدواتنا قدر الإمكان، وتعديل استراتيجياتنا ووسائلنا، تماماً كما تعمل فصائل المقاومة لخطِّ استراتيجياتٍ عسكريةٍ جديدةٍ كلّ فترة، تفاجئ فيها العدو، وتضربه من حيث لا يحتسب. وفي المنوال ذاته، على العمل المقاوم السلمي تطوير أدواته وتعديلها، وتغيير استراتيجياته، سواء في التظاهر والاحتجاج على مستوى العالم أجمع، وعلى مستوى الملاحقة القانونية والتوثيق أيضاً، والمجابهة السياسية والإعلامية، إلى جانب الاقتصادية.

ما زلنا في مواجهة مستمرّة، واحتمال نجاح الاحتلال في تهجير الفلسطينيين أو في كسر المقاومة ما زال قائماً

لا يقصد الكاتب التقليل من حيوية هذه الأنماط المُقاوِمة، بل على العكس، يودّ الإشادة بها، وبحيويتها، وبتطورها الدوري، لكنّه يودّ التأكيد على أن مفهوم الانتصار في ظلّ استمرار المواجهة، بالنمط ذاته أو بأنماطٍ مختلفة، مستحيلٌ، بل يصحّ اعتباره سرابا يسهل تبدّده كلّما اقتربنا منه. كما يودّ الكاتب التأكيد على أن طول المواجهة الراهنة وتنوّعها وصعوبتها تعكس مدى أهمّيتها وتأثيرها المستقبلي. كما لا بدّ من التأكيد على أنّ شعب فلسطين ومقاومته وداعميه حول العالم، شعوباً وقوىً ودولاً، يحقّقون نجاحاتٍ معتبرةً جعلت الاحتلال الصهيوني يتخبّط بسببها أولاً، ويفضح حقيقته ثانياً، كما فضحت حقيقة حلفاء الاحتلال ثالثاً، كما قد تساهم في كسر الهيمنة الأميركية رغم صعوبة ذلك حتّى الآن، خصوصاً في ظلّ قيادة ترامب، التي ترعب حلفاء أميركا أكثر من أعدائها، من كندا إلى دول الاتّحاد الأوروبي، مروراً بالمملكة المتحدة، وسواها من الدول.
رغم الخسائر البشرية الكُبرى، فإن فلسطين اليوم، أقرب إلى انتصار منها إلى الهزيمة، بل لم يصل الفلسطينيون إلى هذا القرب من الانتصار منذ نكبة 1948، لذا علينا عدم تفويت الفرصة، واعتبار الانتصار مسألة وقتٍ لا أكثر، فإن نجحنا في استكمال الأداء الأسطوري شعباً ومقاومةً حتّى نهاية العدوان بأنماطه كلّها، سنُحدث تحولاً جذرياً في المنطقة والعالم، تحوّلٌ سيساهم في استعادة الحقوق الفلسطينية كلّها، أو على الأقلّ معظمها.

75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.