في التنجيم والسياسة

11 يناير 2025

(وجيه نحلة)

+ الخط -

تحمل بداية كلّ عام عدداً كبيراً من التنبّؤات الفلكية المتعلّقة بالسياسة والاقتصاد والمجتمع. وبما أن التنجيم لا يقدّم أيّ إطار تفسيري واضح لكيفية تأثير النجوم في البشر، تظلّ تنبؤات المنجّمين والعرّافين المتعلّقة بالأحداث مُجرَّد صيغ لغوية غامضة تخضع لتفسيرات متعدّدة، وليست بمنأى عن التلاعب بأذهان المتلقّين.

يؤثّر الإيمان بالتنجيم في جميع مستويات المجتمع، بما في ذلك الأشخاص الأكثر تعليماً. وأحيانا يبدو المزارعون أقلّ سذاجةً من الموظّفين أو العمّال أو المديرين المتوسّطين، ومن المفارقة أن التنجيم ينتشر بسرعة أكبر في المدن. يزداد الموقف الإيماني تجاه التنجيم مع الاهتمام المُعلَن بالعِلم في نوع من التناقض الغريب، ويبلغ ذروته بين الطبقات الوسطى التي تحصل على رواتب وتحمل شهادات التعليم المتوسّط (وفقاً للفيلسوف ثيودور أدورنو، فإن شبه العالِم سيتّخذ طرقاً مختصرةً غير علمية، من أجل العثور على إجابات فورية لكلّ الأسئلة المتعلّقة بالمستقبل)، ثم تنخفض بشكل ملحوظ بالنسبة للطبقة الاجتماعية الأكثر تعليماً، ولكنّها تبقى بعيدةً من الانخفاض إلى الصفر. ومع ذلك، تظلّ شريحة السكّان الأكثر تقبّلاً للتنجيم هم أولئك الذين يعتمد اندماجهم الاجتماعي بشكل كبير على تقلّبات سوق العمل، والذين يشعرون بشعور قوي بالقلق بشأن المستقبل. إذ يثق الفقراء والعاطلون من العمل في طمأنة العرّافين والمنجّمين أو يعتقدون أن القوى الروحانية المرتبطة بالنجوم تهيمن عليهم، فيشكّل البرج الفلكي مخفِّفاً قوياً للقلق في مواجهة عوامل انعدام الأمن الخاصّة بمجتمعاتنا الحديثة.

ويُقدّم عالم الاجتماع ثيودور أدورنو تفسيراً لانتشار الإيمان بالتنجيم رغم التقدّم العلمي الذي تعرفه الإنسانية، فالبشر لا يشعرون بانتمائهم لبرج الثور أو العذراء لكونهم أغبياء إلى حدٍّ يجعلهم يصدّقون نبوءات العرّافين الغامضة، بل لأن هذه القوالب الجوفاء والتوجيهات الحمقاء، التي توضع من أجل فنّ عيش يكتفي بإرشادهم إلى ما ينبغي فعله، تُيسّر عليهم ولو ظاهرياً الاختيارات التي يجب القيام بها، وتخفّف ولو وقتياً شعورهم بالغربة عن الحياة، أو بالأحرى غربتهم عن حياتهم ذاتها.

أثبت التنجيم في المجال العام أنه مُربِح للغاية، وشهدت السنوات الماضية تضاعف حضور المنجّمين في وسائل الإعلام، وتزايد تأثيرهم في أصحاب القرار

للأسف، يمارس غالبية المنجّمين بمهارة تجارة خالصة تزدهر بفضل سذاجة السواد الأعظم من الناس. ولا يقتصر تأثير المنجّمين في المجال الخاصّ فحسب، بل يمتدّ أيضاً إلى الحياة الاقتصادية والسياسية. وقد أثبت التنجيم في المجال العام أنه مُربِح للغاية، وشهدت السنوات الماضية تضاعف حضور المنجّمين في وسائل الإعلام، وتزايد تأثيرهم في أصحاب القرار.

دائمًا ما ينغمس السياسيون في هذا الأمر بتكتّم شديد، يستوي في ذلك رجال السياسة في الدول المتقدّمة أو تلك الأقلّ نمواً، بل إن دولاً تتبنّى اللائكية بشكل مطلق، كما هو الحال في فرنسا، تتسرّب الأخبار دائماً عن لجوء رؤسائها إلى عرّافين ليساعدوهم في اتخاذ القرار، وفي يونيو/ حزيران 2000، قرّرت المنجّمة الشهيرة إليزابيث تيسييه أن تبثّ محادثاتها مع فرانسوا ميتران بين عامي 1990 و1995، وهي الفترة التي كان يحكم فيها فرنسا. لقد كانت بالنسبة لها وسيلةً لإثبات أهمّية التنجيم في السياسة.

خلال هذه السنوات الخمس، زعمت إليزابيث تيسييه أنها ذهبت بانتظام إلى الإليزيه لعقد اجتماعات سرّية. وفي مجتمع تهيمن عليه عقلانية ورثة عصر التنوير، فمن غير المفهوم على الإطلاق الاعتماد على وسائل لاعقلانية في قضايا الحكم والسياسة، إذ المعتاد أن تعنى قيادة الدولة باتخاذ قرارات مدعومة بالحقائق والأرقام والتحليلات الدقيقة.

أمّا في المنطقة العربية، فقد تحوّل التنجيم أداةً للتأثير وتوجيه الرأي العام وفق أجندات سياسية ومخابراتية لا تهتمّ كثيراً بالتناقضات الحاصلة بين التوقّعات المتغيّرة بقدر اهتمامها بتمرير دعايات وأوهام لمزيد من التحكّم في الشارع العربي المتوجّس من المستقبل، الذي يخشى أصحاب السلطة ردّة فعله غير المتوقّعة، فلا أحد توقّع سقوط زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمّر القذّافي سنة 2011، فهذه أمور تتجاوز حسابات أجهزة المخابرات، التي توجّه المنجّمين والعرافات، ممّن يتقنون توقّع مستقبل زاهر لأنظمة بعينها، والتخويف من كوارث تصيب خصومها، في إطار من التنجيم السياسي الذي يزيد في ترسيخ اللاعقلانية عبر تغييب فكرة الإرادة الحرّة والتفكير النقدي، هاتين الركيزتين للوعي الشعبي الحقيقي.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.