عودة إلى باغرام
عرض عسكري أفغاني في قاعدة باغرام في ولاية بروان شمال كابول (14/8/2024 فرانس برس)
بين يوليو/ تموز 2021 وسبتمبر/ أيلول 2025 متحرّكان وثابت. الأول انسحاب آخر جندي أميركي من قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان، والثاني إبداء الرئيس الأميركي دونالد ترامب رغبته في العودة إليها. الثابت الوحيد، أقلّه وفق الحسابات الأميركية، الموقع الجغرافي للصين، والحاجة الأميركية إلى الإطباق عليها من الخاصرة الأفغانية. وسط ذلك، تظهر حركة طالبان وكأنها اكتفت من الابتعاد عن الأميركيين، فيما فشلت في إتمام تحالف اقتصادي لا سياسي، مع الصين وروسيا. وتشبه حالة الحركة تلك الإيرانية، حين وجدت طهران نفسها في مواجهة العقوبات الأميركية والدولية، والحرب الإسرائيلية عليها، بمفردها.
وعلى الرغم من التحاليل "التي أثبتت اندحار القوات الأميركية في أفغانستان"، وفق غلاة الشعبوية، غير أن "طالبان"، كما إيران، لا يمكنها التحرّر من القيود الدولية من دون التفاهم مع الأميركيين. ومع أن سبب ذلك يعود إلى حجز الأميركيين أموال المصرف المركزي الأفغاني بدرجة أساسية، غير أن التفاهمات مع الصينيين والروس لا تخرج عن سياق تأمين متطلبات بكين وموسكو، من دون الاهتمام بكابول. كذلك، فإنهما عاجزتان عن تأمين أسواق واسعة النطاق لكابول. في المقابل، إن الأميركيين يفعلون أكثر من ذلك، لجهة تأمين حاجاتهم من أي بلد، لكنهم قادرون على فتح الأسواق الغربية كلها على مصارعها، لكابول في حالتها. وهو ما تحتاجه "طالبان"، التي عجزت طيلة السنوات الماضية عن تقديم ما يختلف عن الأنظمة السالفة، باستثناء منع الفتيات من ارتياد المدارس ومنع النساء من العمل في المنظمات الإنسانية ومنعهن حتى من التكلم خارج المنزل. كان ينقص الحركة أن تزيل النساء من قاموس البلاد.
مع ذلك، لا بدّ أن يمرّ أي استهداف لحركة طالبان للأسواق الخارجية من الولايات المتحدة، خصوصاً عبر قاعدة باغرام الجوية، وهي التي تحوّلت رمزاً للاحتلال الأميركي لأفغانستان (2001 ـ 2021)، لكنها أيضاً مصدر توجّس للروسي، وارث الهزيمة السوفييتية في أفغانستان (1979 ـ 1989)، والصيني، الساعي إلى التمدّد باسم طريق الحرير. ومع أنه كان يفترض أن تستغل موسكو وبكين الخروج الأميركي، وما رافقه من سقوط 13 جندياً أميركياً من تفجير انتحاري لـ"داعش" في مطار كابول، في أغسطس/ آب 2021، للتغلغل في أفغانستان، لكنهما ترددتا، مكتفيتين بالسير بمحاذاة الجدار الآسيوي، وفي الاعتقاد أن لا عودة أميركية إلى أفغانستان، قياساً على التاريخ الدموي بين واشنطن وكابول.
تغيّر الوضع اليوم، والعودة إلى باغرام ستحمل معطيين، داخلياً وإقليمياً ـ دولياً. في الداخلي، أي تفاهم بين ترامب و"طالبان" سيطيح الجهود المبذولة لدفع الحركة للتراجع عن القرارات المتعلقة بالنساء، ما لم يضع ترامب شرطاً بتغيير ذلك. كذلك، سيؤجّل ملف الحريات عموماً نقاشها في أفغانستان ـ "طالبان" حتى إشعار آخر. أما المعطى الخارجي، فيكمن في أن العودة الأميركية ستختلف هذه المرة عن سابقتها. خلال غزو أفغانستان كان كل من هو خارج القاعدة الجوية "عدواً". اليوم، سيكون كل من هو خارج القاعدة "صديقاً". سيتعاون الأميركيون مع "طالبان" في مواجهة "داعش". أما الصينيون والروس، ومعهم الإيرانيون، فسيشهدون على فشلهم في ملء الفراغ الأميركي في السنوات الأربع الماضية، ولن يتمكنوا من سدّه في حال التمدد في عمق الوسط الآسيوي، في كازاخستان خصوصاً.
وفقاً لهذه التطوّرات، لم فشلت روسيا والصين وإيران، رغم القرب الجغرافي والحدود المشتركة حتى مع أفغانستان، في حالتي طهران وبكين، في الحلول مكان الأميركي في كابول؟ مع أن لذلك أسباباً جمّة، إلا أن الدرس المستخلص منها يكمن في أن أمثال هؤلاء يفهمون التحولات من منظور "إبعاد الأميركي" عن الجوار، من دون البحث في تأمين مستقبل هذا الجوار، كي لا يعود الأميركي مجدداً. هذه أوكرانيا، والشرق الأوروبي، مستعدة للتحالف مع الشيطان عوضاً عن الخضوع لروسيا. هل سأل أحد لماذا، كي لا تتكرّر العودة إلى باغرام؟