طنجرة الدولة العميقة

12 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 02:58 (توقيت القدس)
+ الخط -

ما أنسب المثل "اقلب الطنجرة على فمها تطلع البنت لأمها" لوصف تناسل أنظمة الحكم المتشابهة أحده خلف الآخر. هل نتحمّل مسؤولية هذه الطناجر التي تُقلب علينا بين يومٍ وآخر، وتستمرّ إلى الأبد أحياناً؟ هل العيب فينا أو في الطّناجر؟

في آخر عام من الألفية السابقة، انتهى في المغرب عهد الملك الحسن الثاني، وبدأ عهدٌ سُمّي بالجديد لما يفوق العشرين سنة، فانتعشت الآمال مع الانفتاح المبشّر. وابتهج الناس بالتغيير الذي جاء من حيث لا يحتسبون. وندم المهاجرون إلى الخارج على قلة صبرهم وتمنّوا العودة إلى البلاد. فمن لا يحبّ أن يكون جزءاً من بناء البلاد الجديد، لكن ما هي إلّا سنوات، حتى تلاشى الأمل، وتبيّن للناس أنّ قلب الطناجر قدر يطارد بلدان المنطقة ولو على درجات.

هناك نسخٌ أشد قوة من النموذج المغربي الذي قد يبدو في سياقها قرصة أصبع. وآخرها حالة السوريين الذين كانت فرحتهم أقصر بكثير، مع الفارق في السابق والآتي. الغريب أن للأمل عادة لا يغيّرها، أنه يسبق الناس عند التغيير. يحبّ الناس أن يُحسنوا الظن بالجديد، لعله يصدُق وعدَه معهم. ولم لا يفعل؟ ما الذي سيخسره أي نظام إذا صدَق وعده؟ لكن منطق أنظمة المنطقة العربية يمشي يساراً، فحتى قيس سعيّد الذي حملته صناديق الاقتراع انقلب على آمال الناس. من أين يأتي التغيير ليبقى تغييراً عن حق؟

تبدو السّلطة هنا كأنّها غير السلطة في أماكن أخرى... مثل خاتم "سيد الخواتم"، يميلُ حامل الخاتم إلى الاستبداد، مهما كان معدُنه طيباً، بمجرّد أن يضع الخاتم في أصبعه، فيصبح الخاتم الحاكم لا حامله. طبعاً، ليس الحاكم هنا شخصاً واحداً، بل شبكة من الأشخاص الذين يسعون إلى الاستفادة من دوام الحال. وبعد فترةٍ، لا يصبح الحاكم فرداً بحاشية، بل دولة داخل الدولة. يمكن لشخصٍ أو مجموعة أشخاص أن يشبعوا من المال والسلطة يوماً ما. لكن دولة من الناس الذين يشكّلون النظام بعد فترة لا يمكن إشباعها، فحاجاتها متجدّدة بقدر اتساعها المستمر، ودخول عناصر جديدة إلى الدولة.

لا شيء يحمي المؤسّسات من تغوّل فئة واحدة، واتساع شبكة الأفراد لتُكوّن مجموعة من المصالح المشتركة، القائمة على تبادل الخدمات والريع والتواطؤ على حلب بقرة الدولة إلا الديمقراطية. وتُمكن الاستعانة بالطّبخ لفهم المعادلة السلطوية. فجلّ الأطباق تقوم على وصفات محدّدة المكونات، إلا التي تُطبخ في طنجرة أو كسرول أو طاجين... كلها مسمّياتٌ لأطباق تُعدّ كما اتفق بما حضر من خُضر ولحوم وسمك. أيّ شيء يمكن أن يكون طاجناً أو طاجيناً معقولاً. وما من أحد متفوّقٌ في طبخ كل ما اتّفق أكثر من المغاربة، الذين ضُحك عليهم طويلاً بمصطلح "الاستثناء المغربي". ورغم أن الناس أكلوا المقلب حتى لفظوه، ما زال كثيرون يمنُّون عليهم بالاستقرار، بدل الخراب الذي تعيشه دول أخرى لم يحمد أهلها الله على "النعمة"، فتمنّوا رجوع الدولة العميقة القديمة بمعالقها وشهيّتها التي لا تهمد.

لم تستقر الدولة الجديدة في سورية بعد، لكنها تعمّقت بسرعة عبر شبكة أشخاص، منهم من كان مع الثورة ومنهم من انتقل سريعاً من موالاة نظام إلى غيره. الأهم بالنّسبة لهم هي السلطة حيثما كانت، والمصالحة معها. والدولة، أيُّ دولة، تحتاج حلفاء، والدولة الحديثة في سورية جاءت عن طريقٍ غير مؤسّس على قواعد سياسية. ولعلها مضطرّة لمداراة بعضهم حتى تتمكّن لها السلطة. وحينها تصبح المشكلة "التمكّن من السّلطة" لأنه يحين وقت الأبد.

للشّوام طبخة المقلوبة، فالمرءُ لا يعرف ما اختار الطبّاخ من خضر ولحم، لأن الرز يخفي ما تحته. بعد قلب الطنجرة تظهر الحقيقة كاملة. مقابلها في المغرب "السّفَّة العمياء"، وهي شعيريّة مبخّرة يوضع الدجاج تحتها، فيمدّ المرء ملعقته ولا يعرف إن كان تحت الأمر أمر أم لا. فهناك نسخة أخرى من السّفة، لا تضم شيئاً آخر غير الشعيرية. لذا لن يعرف الضيف وهو يمدّ ملعقته إلى الطبق إذا كان ما فيها سفة عمياء، أو سفة بلا مفاجآت ولا وعود.

عائشة بلحاج
عائشة بلحاج
عائشة بلحاج
رئيسة قسم الثقافة في "العربي الجديد"، صحافية وشاعرة مغربية.
عائشة بلحاج