سِفْر الصِّفْر
(Getty)
الوقت مساءً، والورقة بيضاء. لا فكرةَ، لا جملةَ، لا حرفَ. مجرّد بياض صامت. هي الكتابة في الدرجة صِفْر، كأنّ الكلمات كلّها انسحبت لتترك مجالاً لانبلاج ما سيعيد جذبها إليه كمغناطيس. القلم في يدي، رأسه في أول السطر، نقطة حبر في اتساع البياض. لا، هذا صِفْر. الصِّفْر ليس عدماً، إنه حالة وجودية تتجاوز حساب الأعداد، شرطٌ للخلق.
في الحضارة الهندية، كان الصِّفْر نقطةً صغيرةً، خفيةً، لا شكل لها سوى ثقل فراغها، نقطة تميّزت بأنها أشبه بفاصلة، علامة انتظار، غياب، لكنّها في الوقت ذاته وجودٌ، تبدّلٌ من صمتٍ إلى صرخةٍ، من عدمٍ إلى كينونةٍ. تلك النقطة نُقشت في مدينة غواليور منذ قرون عديدة، ثمّ عَرفتْ مرحلة تحوّل عميق، عندما بلغت العالم الإسلامي. لقد وضع الخوارزمي نظام العدّ العشري، وأعطاه إطاراً علمياً، فكان أن تحوّلت النقطة تدريجاً شكلاً دائرياً، وباتت رمزاً للكمال والإتقان، دائرة تُغلق على ذاتها وتذكّر باللانهاية التي تبدأ من الفراغ وتعود إليه. هذا التحوّل في الشكل ليس تزيينيّاً فحسب، بل هو تعبير عن فلسفة وجودية عميقة تجسّدها الدائرة بما تمثّل من وحدة، ودورة وتكامل. في العمارة العربية الإسلامية، يبدو الصِّفْرُ الأقرب إلى مفهوم الفناء الداخلي (الباثيو)، الذي يشكّل مركز البيت، ويجمع بين الخصوصية والاتصال بالسماء والهواء. مساحة مركزية مقفلة تحيط بها جدران البيت وغرفه، هي ليست شكلاً هندسياً فقط، بل رمز للحماية والسكينة والتوازن، ونقطة انطلاق أو ارتباط لكلّ عناصر البيت العربي.
لقد وصل الشكل الدائري إلى الصِّفْر، إلى أوروبا فاعتُمد في ما أصبح يعرف بالأرقام الغربية، التي هي في الحقيقة رموز عربية إسلامية. مع ذلك، يبقى الأصل الهندي حاضراً في جوهر الصِّفْر، وقد اعتمد العرب في النهاية الأرقام الهندية. فالنقطة هي البداية التي ينبثق منها كلّ امتداد، كلّ معنى، كلّ وجود. إنها في الصمت الذي يسبق الكلام، وفي الفراغ الذي يُعلن ولادةَ الزمان. ليس الصِّفْر حالةَ موت أو جمود، بل هو حالة انتظار مملوءة بالاحتمالات، فضاء مفتوح على الاحتمالات كلّها، بداية كلّ القصص التي لم تُكتب بعد.
تتجلّى أهمية هذه النقطة أيضاً في التصوّف الإسلامي، إذ رأى ابن عربي (مثلاً) أن النقطة أوّل الخلق، نقطة الانطلاق التي ينكشف منها الكون، وهي أيضاً آخر المراتب التي يعود فيها كلّ شيء إلى وحدة واحدة لا تتجزّأ. فالفراغ الذي تمثّله النقطة ليس فراغاً عديماً، بل هو سرّ من أسرار الوحدة والوجود المطلق، إذ تتلاقى الخطوط والدوائر وتتداخل في كيان واحد. هذا التصوّر يفتح أفقاً للتأمّل في العلاقة بين اللاشيء والشيء، بين الفراغ والامتلاء، فلا يفصل بينهما إلا نقطة. تتجلّى هذه الفلسفة أيضاً في العمارة العربية الإسلامية، فلا يُنظر إلى الفراغ خلوّاً عديماً، بل عنصراً أساساً يُشكّل وجود المكان وروحه ويحفظهما. الأفنية المفتوحة، والباحات الداخلية، والنوافذ التي تتطلّع إلى الداخل ليست فراغات عبثية، بل نقاط تركيز وتنفّس تجعل من الفراغ نفسه حاضراً وفاعلاً. الفراغ هنا يحوي ويحيط، يمكّن ويحرّر، وهو ما يعكس بديع الهندسة والتصميم الذي يوازن بين المادة والعدم، كما يقول الباحث والمتخصّص في الفنّ الإسلامي، أوليغ غرابار. أمّا في علم الكونيات الحديث، فيشبه الصِّفْر النقطة التي سبقت الانفجار العظيم، إذ لم يكن هناك بعد زمان ولا مكان، لحظة لا يمكن وصفها إلا عبر مفهوم النقطة: وجود بلا امتداد، بلا مكان وزمان، لكنّه ليس لا شيء، بل يحتوي الوجود والأكوان في صمت مطلق. هي المادة في حالة كمون، كما يقول العلماء، في اللحظة التي سبقت لحظة البيغ بانغ. أجل، النقطة والصِّفْر هما بداية الحكاية ونهايتها، ومفتاح الوجود كلّه.