سرعة النسيان
(كاظم خليل)
هل "يجب أن نملك القوة على النسيان لنستطيع أن نعيش"، كما كتب نيتشه في كتابه "تأملات غير معاصرة"؟... بالنسبة إليه، ليس النسيان عيباً في الذاكرة، بل هو قوة حيوية، ومقدرة على كسر وطأة الماضي لفتح المجال أمام الحاضر. من دون النسيان، حتى الوفاء يفقد مرونته، إذ يمكن لما نعتزّ به أن يتحوّل عبئاً تحت ثقل الذكرى. النسيان هو أحياناً اختيار لما نريد أن نحتفظ به، حتى يبقى التعلّق حيّاً. فالذاكرة لا تكتمل إلا بنسيانٍ يسمح لها بالبقاء وفيّةً لما هو جوهري. نعم، لحسن حظّ البشرية جمعاء، يتيح النسيان التحرّر من الجراح والضغائن والحقد والكراهية، وكلّها أحاسيس ثقيلة مرهقة تخنق الذاكرة وتجعلها تنوء بما لا تقدر على تحمّله، ويُعيق التقدّم في الحياة.
اعتبر الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في كتابه "الذاكرة، التاريخ، النسيان" (نقله إلى العربية جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد، بيروت، 2009)، أن النسيان ليس اختفاء الذكريات، بل هو وضعها في حالة سُبات، ومفاده بأن النسيان لا يتعارض مع الذاكرة لأنه جزء منها. في الحالتَين، من دون مقدرتها على النسيان، تزن الذاكرة أطناناً وتصبح عبئاً جامداً يمنع المشاعر الإيجابية من التكيّف والاستمرار. النسيان فعلٌ خلاصيٌّ وطاقة علاج وشفاء، إنه ضرورة داخلية، ونظام صحّي يتيح تنفّس الروح وتخلّصها من السموم والشوائب.
والحال أن ما يلفت الانتباه اليوم هو ما آل إليه النسيان، رفيقنا القديم الرحيم، وقد ارتدى رداءَ السرعة القاتلة التي باتت تُحوّل كلّ اللحظات رماداً يسهّل ذرّه في الهواء. أجل، نحن نعيش اليوم عصراً نسّاءً يستهلك الأحداث بسرعة مفرطة، ويُنتج كلّ يوم، لا بل كلّ دقيقة، كمًّا هائلًا من الصور، الصيحات، الأحداث، التي لا تحيا أكثر من ساعات حدّاً أقصى، قبل أن تُستبَدل وتُمحى فوراً. لقد أُخضع النسيان لعمليات تمويه وتشويه، بدّلته من عملية تلاشٍ بطيء وتدريجيٍّ، إلى اختفاء وقطيعة فوريَّين. وهذا بالفعل مقلق، بل مخيف، وقد حُرم النسيانُ من وجوده الطبيعي المتأتّي من تحالفه مع عامل الوقت، ليتحوّل نسياناً سريعاً، مفتعَلاً، بل شبه صناعي. هل هي نزعة التوثيق والأرشفة والنشر السريع والمشاركة مع الملايين التي فرضتها الشبكة العنكبوتية وما رافقها من وسائل اتصال اجتماعي، ما سرّعت الإيقاع إلى هذه الدرجة، فطمر ذاكرتنا بأطنانٍ من أنباء باتت تتساوى، رغم جدّيتها وحدّة مأساويتها، مع معلومات تبلغ من التفاهة سقفاً لم يسبق أن بلغته قبل الآن؟
يحمل كلّ يوم لنا كلمةً مفتاحيةً وحدثاً، لا يلبثان أن يختفيا. العالم بأكمله يحضر أمامنا مثل خيط أخبار لا ينقطع، متجدّد دائما لكنّه في المقابل، وبسبب تسرّعه واجتزائه، يحثّنا على نسيانه مباشرةً. أجل، نحن قلّما تذكّرنا ما حرَّكنا بالأمس. حتى أقوى الصور وأكثر الأنباء ضراوة (زلزال، بشر يتعرّضون للإبادة، طفل يبكي جوعاً أو يلفظه البحر غريقاً... إلخ) تذوب في محيطٍ رقميٍّ لا يرحم. يتحدّث عالم الاجتماع والفيلسوف الألماني هارتمولت روزا في "التسارع... نقد اجتماعي للزمن" (2010)، قائلاً: "لم يصبح كلّ شيء أسرع فحسب، بل إن زمن الاستيعاب والتفاعل قد تقلّص، فما عدنا قادرين على هضم الأحداث، بل بالكاد ملامستها. بهذا المعدّل، نحن لا ننسى التاريخ فقط، بل الحاضر ذاته الذي يفوتنا بمجرد حدوثه". النسيان ليس عدوّنا. لكنّه يصبح مقلقاً عندما يتسارع، وعندما لا يترك حتى مجالاً للذاكرة لتبدأ عملها. ليس النسيان ذاته ما نخشاه، بل ألا يتبقى لنا ما ننساه.
ملاحظة أخيرة: هل كانت فجيعة غزّة لتباشر صمودَها في وجه النسيان والبدء بطرق أبواب الضمير العالمي، لولا امتداد فظاعتها زمنياً (منذ 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)؟ السؤال مرعبٌ فعلاً، بيد الأكثر إثارة للرعب هو الردّ إيجابياً على سؤالٍ كهذا.
ومع ذلك، هناك ما يقاوم. أحياناً تعود الذكرى فجأة: صوت، رائحة، كلمة. شخص كنّا نظنّه مفقوداً يظهر في حلم أو نظرة. هذه ذاكرة كامنة وسلبية، كما وصفها بروست فالتر بنيامين، شظايا من الماضي مخبّأة في تفاصيل لا تخضع لأيّ توقيت. ليس الأكثر ضجيجاً هو من يدوم.