خطاب القَسَم اللبناني
لم يطرح أيّ رئيس جمهورية لبناني في قسمه اليمين الدستورية ما طرحه الرئيس جوزاف عون في خطابه، أول من أمس الخميس، أقلّه في عهد ما بعد اتفاق الطائف، الموقّع في عام 1989. يتعلّق الأمر بشكل خاص بثلاثية لا رابع لها: إعادة العمل باتفاق الهدنة مع إسرائيل، سلاح حزب الله، ترسيم الحدود مع سورية. من الصعب الاعتقاد أنه من السهولة إتمام ما دعا إليه عون، لكن من المجدي إيجاد حلول لمثل تلك المعضلات. في البداية، فإن العمل بموجب اتفاق الهدنة الموقّع مع إسرائيل في عام 1949، أضحى أمراً واقعياً، انطلاقاً من ترسيم الحدود البحرية بين اللبنانيين والإسرائيليين في أكتوبر/تشرين الأول 2022، بجهد من رئيس المجلس النيابي نبيه برّي، بتأييد من حزب الله. حينها أشرفت الولايات المتحدة، عبر عاموس هوكشتاين، على إتمام الاتفاق "بين البلدَين"، علماً أن الدستور اللبناني لا يعترف بإسرائيل "دولةً". بالتالي، فإن التعليل وقتها باتفاق الهدنة لتبرير ترسيم الحدود البحرية، يُصبح مطلوباً في الفترة المقبلة، بعد استكمال الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان، كما نصّ عليه اتفاق وقف النار الموقّع في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. ويلي الانسحاب، تثبيت الحدود، بما فيها قضية مزارع شبعا، المعلّقة منذ 1967، وسط إشكالية حول ما إذا كانت أراضي لبنانية أم سورية.
النقطة الثانية التي أشار إليها عون، متعلقة بـ"احتكار السلاح"، الذي يتضمّن أيضاً سلاح حزب الله، وذلك لأن الحزب وافق عبر برّي على تفكيك منشآته العسكرية وتسليم أسلحته إلى الجيش اللبناني "بدءاً من جنوب الليطاني"، على أن يُستكَمل في شماله لاحقاً، حسبما هو وارد في نصّ اتفاق 27 نوفمبر الماضي. يعني هذا أن مرحلة عتيدة مقبلة على لبنان، عنوانها إنهاء كلّ المظاهر المسلّحة خارج سياق الشرعية اللبنانية. لا يجوز التوهّم بأن مثل هذا الأمر قد يحصل بسرعة أو أنه سهل الإتمام، غير أنه يبقى نقطة انطلاق كي يقتنع من لم يقتنع بعد أن لبنان، بحدوده الحالية، يبقى الملاذ الأنسب لجماعاته و"شعوبه"، لاعتبارات جغرافية بالحدّ الأدنى. أما الحديث عن ضمانات لحزب الله و"أمل" في جلسة الانتخابات الرئاسية، الخميس الماضي، فليس بأزمة، لأنه في لبنان لا يُمكن لأحد إلغاء أحد ولا رميه في البحر. منذ أشهر كان حزب الله، ممثّلاً للقوة الشيعية، يملك من فائض القوة ما لم يملكه أحد في العقد الماضي، ولم يتمكّن من فرض رئيسٍ للجمهورية. الأمر نفسه ينطبق على المسيحيين والدروز والسُنّة، الذين مرّوا بمراحل من فائض قوة مشابه للشيعة، وسقطوا من علياء، مثلهم.
النقطة الثالثة متعلّقة حصراً بترسيم الحدود مع سورية، وهي إشكالية تطرح معضلة جديدةً ـ قديمة، متعلّقة بالأصل بمفاهيم بعض السوريين، من أنصار البعث أو معارضيه، حول عدم الاعتراف بلبنان دولةً مستقلّةً، بل والدعوة من حين إلى آخر في السياقات التاريخية، إلى "إعادة ضمّه" إلى سورية. وتلك التصريحات المتفلّتة، تُسهّل في اللاوعي المجتمعي على الحدود بين لبنان وسورية، حركة التهريب باعتبارها "أمراً طبيعياً وعادياً". وهو ليس كذلك على الإطلاق. ترسيم الحدود في هذه الحالة يصبح أكثر من ضروري، خصوصاً بما يتعلّق بالجيوب الجبلية المتعرّجة بين البلدين ومزارع شبعا والمنطقة البحرية شمالاً. لا يعني ترسيم الحدود عداوةً، قد تكون نسب المصاهرة بين اللبنانيين والسوريين من الأعلى في العالم، لكنهما يظلّان بلدَين منفصلَين ومتجاورَين.
الأكثر أهميةً فيما سبق كلّه أن النقاط الثلاث متصلة بشكل ما بإعادة استيلاد هُويَّةٍ لبنانيةٍ جامعةٍ، بمعناها الانتماء لوطن بعينٍ واقعية مبنية على تجارب العقود الماضية، لا بعينٍ مذهبية تُعبّر عنها قراءات مخصّصة لطوائف وجماعات. وقد يكون ذلك مفتاحاً لصياغة العودة إلى لبنان الذي يتّسع للجميع، لأننا لن ندرك مدى تاريخية هذه اللحظة في الوقت الحالي. بعد عام سنفهمها أكثر.