حين تتكلم الطاقةُ سياسةً
تكشف الفوضى الجيوسياسية والاقتصادية الراهنة تحوّلاً دراماتيكياً في معادلات القوّة، فتقدّم فرنسا وقبرص، مدعومتَين بتحالف متوسّطي غير مُعلَن، إجابات أوروبية عن أسئلة الانكفاء الأميركي. التحرّك القبرصي الفرنسي ردّة فعل ظرفية، ومحاولة مدروسة لإعادة تشكيل ميزان القوى من الجنوب الأوروبي نحو المتوسّط. إنه تحوّل يتجاوز الأمن والدبلوماسية، ليشمل ملفّات الطاقة والاقتصاد والسيادة الصناعية، وموقع أوروبا نفسه ضمن منظومة التحالفات الدولية التي لطالما اعتُبرت من الثوابت.
منذ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في 5 فبراير/ شباط 2025، أن بلاده "ليست بنكاً مفتوحاً لأحد"، وتلميحه الصريح إلى تقليص دعم بلاده حلفاءها الأوروبيين، كان على أوروبا أن تعيد النظر في بنيتها الدفاعية والسياسية. وقد تحوّل هذا التراجع الأميركي نحو عقيدة متكاملة تُترجَم عبر الانسحاب من التزامات حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وفرض رسوم جمركية واسعة، وإعادة رسم الأولويات الأميركية باتجاه حرب تجارية شاملة مع الصين، وقطيعة شبه كاملة مع القوى الناشئة. في هذا الفراغ الاستراتيجي، لا تجد أوروبا مفرّاً من التقدّم خطوةً إلى الأمام، ليس بالخطاب فقط، بل عبر مشاريع ربط طاقوي، وتنسيق دبلوماسي، واستثمار في السيادة الصناعية، إذ باتت كلٌّ من باريس ونيقوسيا في واجهة هذه التحوّلات.
مع أن الردّ الأوروبي على الإجراءات الأميركية جاء متماسكاً من الناحية المؤسّسية، إلا أن الداخل الأوروبي أبعد ما يكون عن التوحّد
ومن خلال ملاحظة حراكها الدبلوماسي أخيراً، يبدو أن فرنسا لا تتقدّم بوصفها قوّة تقليدية، بل دولة تعيد ابتكار نفسها عبر القوة الناعمة المدعومة بردع رمزي. فبعد سنوات من التردّد، بدأت باريس تتحرّك بخطة متكاملة. في 12 مارس/ آذار 2025، دعا الرئيس إيمانويل ماكرون إلى إطلاق حوار استراتيجي أوروبي بشأن الردع النووي، مُعلناً أن "الردع الفرنسي عنصر مركزي في أمن أوروبا". كان الخطاب بمثابة إعلان عملي عن استعداد فرنسا لملء الفراغ الأميركي، ولو جزئياً. ماكرون، الذي سبق أن خفّض ميزانية الدفاع بمقدار 850 مليون يورو في 2017 امتثالاً لقواعد الانضباط المالي الأوروبي، يدرك حالياً أن السيادة لا تُبنى بالتقشّف، ولا تُصان من دون بنية ردع متينة.
وقد بلغ التحرّك الفرنسي ذروته في قمّة باريس الرباعية (28/3/2025)، إذ جمعت فرنسا كلاً من الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليديس، ورئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، والرئيس اللبناني جوزاف عون، إضافة إلى مشاركة مباشرة من الرئيس السوري أحمد الشرع، عبر الفيديو. وجاءت القمّة إشارةً إلى تشكّل محور متوسّطي جديد خارج إحداثيات واشنطن التقليدية، وخارج ردّات الفعل الانفعالية التي يطلقها ترامب الذي يصفه الأوروبيون بأنه "غير موثوق"، وتتصرّف باريس على هذا الأساس.
في خريطة التوازنات المعقّدة لشرق المتوسّط، يبرز كلّ من لبنان واليونان لاعبَاً حيويَّاً في صياغة المعادلة الإقليمية الجديدة. لبنان، رغم أزماته البنيوية، لا يزال يحتفظ بموقعه الجغرافي والسياسي ممرّاً محتملاً للطاقة، وساحةَ صراع دبلوماسي بين النفوذ الفرنسي من جهة، وهيمنة حزب الله والاعتداءات الإسرائيلية من جهة أخرى. أمّا اليونان، فهي ركيزة صلبة في المحور الأوروبي المتوسّطي، تبني شراكات دفاعية عميقة مع باريس، وتواجه بجرأة التحرّكات التركية في بحر إيجه وشرقي المتوسّط. يلتقي البلدان عند تقاطع استراتيجي حسّاس، صراع على الغاز، وترسيم للحدود، وتنافس على النفوذ. وهو تقاطع تُعيد باريس هندسته وفق مصالحها وحضورها الأوروبي، مستثمرةً في هشاشة النظام الإقليمي، وفي تعطّل الخرائط الأميركية.
في موازاة هذا التحرّك شمال المتوسّط، كثّفت فرنسا حضورها في الجنوب، فزار ماكرون القاهرة مطلع شهر إبريل/ نيسان الجاري، والتقى الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، وملك الأردن عبد الله الثاني، دعماً للخطة العربية بشأن غزّة. وقال ماكرون في لقائه الثلاثي: "لا يمكن لأيّ خطّة سلام أن تنجح إذا بدأت بالترحيل وانتهت بالإعمار. نرفض أيَّ محاولة لهندسة ديمغرافية جديدة في غزّة". هذا التصريح، الذي وصفه دبلوماسيون عرب بأنه "غير مسبوق من دولة غربية دائمة العضوية"، يعكس انزياحاً حقيقياً في الموقف الفرنسي، من الحذر إلى المبادرة. هذه المحاولة جاءت ضمن السياق السياسي الفرنسي الجديد في توقيت دقيق، مقابل خطّة أميركية وُصفت بالكارثية، اقترحها ترامب لإعادة "هندسة" غزّة عبر التهجير القسري والإعمار الاستثماري. في العريش، على بعد 50 كيلومتراً من رفح، أطلق ماكرون نداءً لإعادة فتح المعابر، وأكّد رفض بلاده عمليات التهجير، والتزامها بحلّ الدولتَين. لم تكن تلك لحظة رمزية فحسب، بل خطوة فرنسية واعية لإعادة التموضع داخل المعادلة العربية قوّةً ناعمةً، تضغط وتعرض حلولاً، في مقابل فراغ أخلاقي واستراتيجي تخلّفه واشنطن.
تبقى سورية علامةَ استفهام مفتوحة على الاحتمالات. دولة منهكة، لكنّها تجلس إلى طاولة الكبار مجدّداً
بينما كانت فرنسا تكرّس دورها الدبلوماسي في الجنوب، اختارت قبرص أن تتحرّك من البوابة الاقتصادية. ففي 3 إبريل الجاري، قاد الرئيس نيكوس خريستودوليديس بعثةً رفيعة المستوى إلى الولايات المتحدة، شملت نيويورك وتكساس وسان فرانسيسكو، لجذب الاستثمارات في الطاقة والتكنولوجيا والشحن. خلال زيارته هيوستن، التقى خريستودوليديس نائبَ رئيس شركة إكسون موبيل، فناقش معه مستقبل حقول الغاز في المنطقة الاقتصادية القبرصية، وآفاق التعاون مع شركات تدير حقولاً مجاورة. كما اجتمع مع نائب الرئيس العالمي لشركة نيفادا لبحث سبل دمج قبرص في منظومة الابتكار والحوسبة الفائقة. هذه اللقاءات حملت مؤشّرات سياسية عميقة، قبرص تعرض نفسها مركزَ أعمال واستقرار، لا تابعاً، بل لاعباً قادراً على إدارة موقعه بين ثلاث قارات ومن خلال تفاهمات استثمارية كبرى من جهة الولايات المتحدة.
تجاوز التباعد عبر الأطلسي خطوط الدبلوماسية، واتخذ بعداً اقتصادياً عنيفاً. ففي 2 إبريل/ نيسان الجاري، أعلن ترامب فرض رسوم جمركية شاملة على جميع الواردات إلى الولايات المتحدة بنسبة 10%، إلى جانب رسوم انتقائية بلغت 54% على الصين، و20% على الاتحاد الأوروبي. جاء الردّ الأوروبي سريعاً، إذ وافقت دول الاتحاد على فرض رسوم بنسبة 25% على منتجات أميركية واسعة تشمل الصلب والألومنيوم والدواجن، وحتى المنتجات الزراعية مثل اللوز وفول الصويا. كان هذا أوّلَ ردّ أوروبي مباشر منذ اندلاع النزاع التجاري، وعنواناً لتحوّل أكبر، لم تعد أوروبا تقبل دور "الشريك الصامت"، بل صارت تدافع عن سيادتها الاقتصادية، حتى ولو بتكلفة عالية. كما قالت المفوضية الأوروبية: "هذه الرسوم يمكن تعليقها في أيّ وقت إذا وافقت الولايات المتحدة على حلّ تفاوضي عادل ومتوازن"، وهي عبارة تُخفي خلفها إدراكاً بأن مرحلة الصبر الاستراتيجي قد انتهت.
ومع أن الردّ الأوروبي على الإجراءات الأميركية جاء متماسكاً من الناحية المؤسّسية، إلا أن الداخل الأوروبي أبعد ما يكون عن التوحّد. ففرنسا تواصل الدفع نحو "الاستقلال الاستراتيجي" خياراً وجودياً، بينما تبدي ألمانيا تردّداً لافتاً، مدفوعة بقلق مشروع من انهيار سلاسل الإمداد الصناعية المرتبطة بالسوق الأميركية. أمّا إيطاليا، الغارقة في انقساماتها الداخلية بين حكومة يمينية وشعب مثقل بتضخمّ لا يُحتمل، فتتراوح بين خطاب تصعيدي ومواقف براغماتية. هذه التباينات تكشف أن مفهوم "السيادة الأوروبية" لا يزال هشّاً، يعتمد على المبادرات الثنائية لا على إجماع أوروبي متماسك.
في قلب هذه التشابكات، يظهر شرق المتوسّط مساحةً تتجاوز جغرافيته المحدودة، ليصبح مختبراً لصياغة نماذج جديدة من السيادة الأوروبية. ويبدو أن القوة لا تُقاس فقط بحجم الجيوش، إنما بمَن يملك الموانئ وشبكات الطاقة والسيطرة على تدفّقات الغاز، وبمَن يستطيع بناء تحالفات ذكية تتجاوز الانقسامات التقليدية. فرنسا، التي تسعى لاستعادة موقعها الصناعي بعد إخفاق صفقة "ألستوم" النووية مع جنرال إلكتريك في 2015، تدفع اليوم باتجاه استعادة سيطرتها على تكنولوجيا الطاقة عبر شركة "إي دي إف"، وتربط أمنها الاقتصادي بالسيادة النووية مجدّداً. قبرص، من جهتها، توظّف علاقاتها البحرية وحقول الغاز، وتفتح نوافذ على وادي السيليكون وعواصم القرار المالي، لبناء منصّة مستقلّة داخل الاتحاد الأوروبي، لا تعادي أحداً، لكنّها لا تتبع أحداً سوى مصالحها.
تشير مشاركة سورية الرمزية في قمّة باريس إلى إدراك أوروبي أن لا خريطةَ متوسطيّةً يمكن أن تكتمل من دون سورية
وسط هذا التحوّل، تبقى سورية علامةَ استفهام مفتوحة على الاحتمالات. دولة منهكة، لكنّها تجلس إلى طاولة الكبار مجدّداً، وإنْ بشكل غير رسمي. مشاركتها الرمزية في قمّة باريس، عبر ممثلها الرئيس الانتقالي أحمد الشرع، تُشير إلى إدراك أوروبي أن لا خريطةَ متوسطيّةً يمكن أن تكتمل من دون سورية، لا بحكم موقعها الجغرافي فقط، بل بما تملكه من سواحل وشبكات تهريب وحقول طاقة ومصالح متقاطعة مع روسيا وإيران وتركيا. السؤال اليوم، ليس فقط ماذا ستفعل أوروبا، بل كيف ستعيد سورية (أو ما تبقّى منها) بناء تحالفاتها الاقتصادية، في عالم بات يربط الشرعية السياسية بالجدوى الجيوطاقوية؟ وهل تمتلك دمشق أدوات فعل حقيقي في هذا التزاحم على المتوسّط، أم أنها ستظلّ مجرّد بند هامشي في مفاوضات لا تُعقَد بحضورها؟
لقد أصبح شرق المتوسّط بوصلةَ صراع، وكلُّ نزاع يُبنى اليوم على شبكة مصالح لا تُرى، وتحالفات تتغيّر مع كلّ موجة. من لا يُدرك خرائط هذه المصالح، ولا يتقن قراءة خطوط الغاز أكثر من حدود الخرائط، لن يفهم ما يجري، وسيظلّ يلاحق ظلالاً لا أساس لها في الواقع الاستراتيجي. في هذا المشهد المتسارع، يبقى الرهان الأكبر معلقاً على سؤالين: هل سيتبلور فعلاً محور متوسّطي أوروبي قادر على فرض أجندة خاصّة به في قضايا الأمن والطاقة؟ أم أن الصراعات الداخلية الأوروبية، من الانقسامات الحزبية في روما إلى صعود اليمين في برلين وباريس، ستعرقل هذا المسار قبل أن يكتمل؟ لا "أوروبا ما بعد واشنطن" واضحة بعد، ولا توازن المتوسّط مستقرّ، لكن البحر (للمرّة الأولى منذ عقود) لم يعد مجرّد حدود، بل مركز ثقل يعيد تشكيل منطق النفوذ.