حاشية على هامش مؤتمر الحوار الوطني السوري
من دون مقدمات طويلة، وبعد 11 يوماً فقط من إطلاق فصائل المعارضة عملية ردع العدوان، سقط نظام الأسد، ووجد السوريون أنفسهم أمام واقع جديد لا يشبه أيّاً من السيناريوهات التي عكفوا (والعالم) على وضعها خلال 13 عاماً من التفكير والعمل لتأمين انتقال سلس في سورية، وسادت في أثنائها مقولة أن "الحلّ في سورية لا يمكن أن يكون إلا سياسياً" وعبر التفاوض، وأن الصراع لن يحسم بالقوة. واقعية هذا الكلام لم تنتج حينها فرضية أن الصراع لم يكن قابلاً للحسم، بل بسبب أن الإرادات الإقليمية والدولية اجتمعت على منع ذلك، خوفاً من البديل، أو رغبةً في إضعاف سورية، أو غير ذلك من أسباب. هكذا، وفي غفلة من العالم وتدخّلاته، تمكّن السوريون خلال 11 يوما من حسم صراع استمرّ (بقرار إقليمي ودولي) 14 عاماً، دمّر سورية وشرّد أهلها.
أمام مفاجأة سقوط النظام المهترئ كان طبيعياً أن تجد إدارة العمليات العسكرية نفسها في حالة من الحيرة إزاء ما يمكن عمله، فهذا واقع لم نواجه مثله في أيٍّ من تجارب ثورات الربيع العربي. في مصر، مثلاً تولّى الجيش حكم البلد، وتأمين انتقال سلس للسلطة، مباشرة بعد سقوط حسني مبارك. في تونس هرب الرئيس زين العابدين بن علي، لكنّ الدولةَ بمؤسّساتها، وفي رأسها الجيش، ظلّت قائمةً، وجرى الاحتكام إلى الدستور في تأمين الانتقال. في العراق وليبيا تولّى الخارج ترتيب أمور الانتقال، كما تولّى مهمّة تغيير النظام، وإن شابت العملية حالةٌ من الفوضى في الأرض في المناسبتَين. أمّا في اليمن، فقد حظيت سلطة عبد ربّه منصور هادي بشرعية دستورية انبثقت من مُخرَجات مؤتمر الحوار الوطني، واستند إليها الخارج في التعامل مع الشأن اليمني عندما استولى الحوثيون على صنعاء.
جاءت التجربة في سورية مختلفةً تماماً، ليس لأن السوريين تمكّنوا، من دون دعم خارجي يذكر، من إسقاط أحد أعتى الأنظمة وأكثرها فساداً وإجراماً وتسلّطاً عبر التاريخ، بل تمكّنوا أيضاً، ومن دون مساعدة خارجية تذكر، من ضبط الفوضى التي حاول النظام الساقط إغراق البلاد فيها، في ترجمة لمقولة "أنا أو الفوضى"، "الأسد أو نحرق البلد".
ثنائية الأمن والعيش الكريم، وهما في صدارة أولويات المرحلة الحالية، ترتبط ارتباطا وثيقاً بوجود خطّة واضحة للانتقال السياسي
في ساعات سقوطه الأخيرة، صدرت الأوامر إلى الجيش والأجهزة الشرطية التابعة لوزارة الداخلية بترك مواقعهم، وخلع بزاتهم الرسمية، والذهاب إلى بيوتهم. كان هذا قراراً من النظام بحلّ الجيش والشرطة والأمن وإدخال البلاد في المجهول. مع ذلك استطاعت إدارة العمليات العسكرية، مدعومةً بوعي شعبي كبير، ملء الفراغ سريعاً وضبط الأمن ومنع وقوع تجاوزات في نطاق واسع. بمُجرَّد السيطرة على الوضع أمنياً في المدن الكُبرى، برز السؤال عن كيفيات انتقال السلطة. ولأن أحداً لم يكن يملك إجابةً، كان القرار (لمنع الفراغ)، هو تكليف حكومة إدلب بإدارة شؤون البلد في محاولة لكسب بعض الوقت (ثلاثة أشهر) حتى يُفكَّر في المرحلة التالية.
كان واضحاً إذاً أن الإدارة الجديدة لم تكن تملك أيَّ تصوّر حول مرحلة ما بعد سقوط النظام، لكنّها كانت منفتحةً، في الوقت نفسه، على مختلف الآراء والمقترحات، خاصّة أن السوريين اشتغلوا للمرحلة الانتقالية كثيراً خلال السنوات الماضية، وخرجوا بخطط تلتقي معظمها في الخطوط العامّة. بعد أسبوعين تقريباً من سقوط النظام بدأت الإدارة الجديدة تتحدّث من خلال مقرَّبين منها، ثمّ من خلال رئيسها أحمد الشرع، عن رغبتها في عقد مؤتمر للحوار الوطني، لكن أحداً لم يُقدّم تصوّراً واضحاً عن كيفية عقده، وخطوات التحضير له، والأهداف المرجوة منه. بدا الأمر في أوّله ارتجالياً، اعتباطياً، لكنّ الأمور بدأت تتغيّر بمرور الوقت، وأخذت ترشح تفاصيل، وإن لم تساعد كثيراً في جلاء الصورة، إلا أنها دلّت على تطوّر في التفكير. ما نعرفه الآن مثلاً أن ما بين 1200- 1500 شخصية ستُدعى إلى المؤتمر، وأن الدعوات ستصدر بالصفة الشخصية للمدعوين، وأنه لن تُدعَى قوىً سياسية... إلخ. كما جرى الحديث عن مواعيد مختلفة لعقد المؤتمر، كان آخرها تصريح وزير الخارجية في حكومة تصريف الأعمال من عمّان عن التريث في عقد المؤتمر، وتشكيل لجنة تحضيرية لضمان الإعداد الجيّد، وهو ما كان مطلباً لكثيرين منذ طرح الفكرة.
تمكّن السوريون من دون دعم خارجي من إسقاط أحد أعتى الأنظمة وأكثرها إجراماً، ومن ضبط الفوضى بعد سقوطه
ومثل كلّ شيء آخر، انقسم السوريون حول فكرة المؤتمر، والغاية من عقده. ففي حين ترى الإدارة الجديدة أن المؤتمر يفيد في إعطاء الشرعية للقرارات والخطوات التي تعتزم القيام بها خلال المرحلة المقبلة، وفي الاستجابة لشرط داخلي ودولي بشأن اشراك أوسع طيف ممكن من السوريين في المرحلة الانتقالية، يرفض آخرون أن يكون المؤتمر مُجرَّد تجمّع مهرجاني، ويُصرّون على أن الغاية من عقده يجب أن تتجاوز ذلك إلى إنتاج خطّة متكاملة للمرحلة الانتقالية، يشكّل المؤتمر مصدر شرعيتها، في حين يرى طرف ثالث أن المؤتمر سيضيف في طنبور الانقسام السوري نغماً، وأن الأفضل من ثمّ، صرف النظر عن فكرة عقده. ويجادل أنصار هذا التيّار بأن تجارب السنوات الماضية لم تكن مشجّعة بهذا الشأن، فالمؤتمرات تعمّق الانقسامات بدلاً من حلّها، وأن جمع 1200 شخص في مكان واحد يُعدُّ أمراً غير مُجدٍ عملياً، ولا يؤمّن أيّ نقاش حقيقي. وإذا فشل المؤتمر في الاتفاق على تصوّرات المرحلة الانتقالية، فإن ضرر عقده يصبح أكبر من نفعه، ونحن لا نحتمل أيَّ فشل في هذه المرحلة الحسّاسة والخطيرة التي تمرّ بها البلاد.
بغض النظر عن اختلاف الرأي بشأن عقد مؤتمر الحوار الوطني، والغاية منه، على أهميتها، لا يمكن أن تبقى البلاد في حالةٍ من الفراغ السياسي إلى ما بعد فترة الشهور الثلاثة التي حدّدتها إدارة العمليات العسكرية (في الأول من مارس/ آذار المقبل)، خاصّة أننا لا يمكن أن نمضي بعيداً في تحقيق الأولويات الأمنية والمعيشية من دون إطلاق مسار سياسي يساعد في تأمينها. لذلك، تغدو الحاجة ملحّةً لاتفاق السوريين سريعاً على الخطوة السياسية التالية، مستفيدين من فترة سماح، أو فرصة إقليمية ودولية مواتية، تميل حالياً إلى دعم الاستقرار ومنع الفوضى في سورية، لكنّ هذا ليس معطىً دائماً، فقد تحصل تغيرات في سياسات الدول، وتبدأ التدخّلات الإقليمية والدولية لتقلب المشهد الهشّ.
لا يمكن للسلطة الجديدة أن تنجح في رفع العقوبات من دون عملية سياسية تضمن مكان ودور المكوّنات السياسية السورية
أمنياً، تحاول الإدارة الجديدة نزع السلاح، وحلّ الفصائل وإدماجها في الجيش الجديد، وهي خطوة يجب أن تحظى بدعم جميع السوريين، لأنها تقطع الطريق على أيّ محاولات انفصالية، أو اقتتال أهلي، وتكبح جماح التدخّلات الخارجية وإمكانية تكرار النموذج الليبي. لكن هذه العملية تواجه صعوبات تنفيذية في مناطق مختلفة، وقد بدأت بعض الأطراف تطالب بتوضيح رؤية دمشق للمرحلة الانتقالية قبل النزول عند مقترح تسليم سلاحها وحلّ نفسها، ما يعني أن ضبط الأمن بات مرتبطاً بإطلاق مسار سياسي واضح، وخطّة انتقالية تبيّن لمختلف الأطراف دورها ومكانها في سورية المستقبل. من دون هذا، لن تقبل بعض الأطراف طوعاً التعاون، ولا تسليم سلاحها، ولا حلّ نفسها والاندماج في الإدارة العسكرية الجديدة. فوق ذلك، يجب توضيح مصير فئات واسعة من السوريين ممّن عملوا مع النظام السابق، والعمل على إعادة دمجهم في المجتمع حتى لا يتحولوا أداةً بيد قوىً خارجيةٍ تستغلّ حاجتهم، وتستثمر في تهميشهم، لضرب الاستقرار وللتدخّل في شؤون البلاد تحت مسمّى حماية الأقليات.
بالقدر نفسه، يرتبط تحسين الأوضاع المعيشية وإنعاش الاقتصاد بإطلاق مسار سياسي واضح. ولا يمكن للسلطة الجديدة، بحسب المعطيات المتوفّرة، أن تنجح في رفع العقوبات الأميركية والأوروبية والعربية من دون عملية سياسية جامعة وشاملة تضمن مكان ودور القوى والمكوّنات السياسية السورية كلّها. ولا يمكن بالدرجة نفسها للحكومة الجديدة أن تضمن اعترافاً دولياً بها من دون توفّر مثل هذه الرؤية السياسية.
هذا يعني أن ثنائية الأمن والعيش الكريم، وهما في صدارة أولويات المرحلة الحالية، ترتبط ارتباطا وثيقاً بوجود خطّة واضحة للانتقال السياسي. ورغم اشتغال السوريين في خطط مختلفة، كما بيّنا سابقاً، فإن الخطة التي وضعها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ونشرها أخيراً تحت عنوان: "سورية الجديدة: خارطة طريق للمرحلة الانتقالية" ("العربي الجديد"، 23/12/2024) تُعدُّ من أكثرها وضوحاً وشموليةً وقابليةً للتنفيذ. اعتمدت الخطّة على الطروحات والفِكَر التي أراق السوريون حبراً كثيراً في كتابتها في مدى 13 عاماً، وهي ترسم مساراً تفصيلياً واضحاً للانتقال السياسي في سورية، وتكفل في حال تنفيذها، أو الاسترشاد بها، تحقيق انتقال سلس، سلمي وشامل، يضمن قيام دولةٍ سوريةٍ تقوم على مبدأ المواطنة وسيادة القانون وقيم الحرية والعدالة، التي ضحّى السوريون كثيراً من أجل الوصول إليها.