جرائم لبنان ورئيس الجمهورية
عشيّة مرور الشهر الأول من عهد الرئيس اللبناني جوزاف عون، أظهرت الأوساط السياسية اللبنانية قصر نظرها في موضوع تشكيل الحكومة العتيدة، على قاعدة أنه كلّما تأخّر موعد التشكيل، مهمّا تعدّدت الأسباب، فإنه لا بدّ من أن يملّ الخصوم والشعب، بما يسمح باستيلاد حكومة "كيف ما كان". أقلّه هكذا كانت حسابات الشغور الرئاسي، الذي دام منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون في 31 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وحتى انتخاب جوزاف عون. غير أن الوضع حقاً تغيّر في بيروت، ولم تعد حسابات الزمن القديم ساريةً في الوقت الحالي. لا يتعلّق الأمر بتمنّياتٍ، بل بوقائع فرضت نفسها، بعد عقد ونيّف من الكباش الإقليمي والدولي في سورية.
وإذا كان ملفّ تشكيل الحكومة معقّداً حتى صباح اليوم السبت، فإن ملفّاً آخر يبدو أكثر تعقيداً، وهو المتعلّق بمدى استعداد الاحتلال الإسرائيلي للانسحاب من آخر المناطق اللبنانية التي يحتلّها، وغالبيتها في القطاع الشرقي، وبعضها في القطاع الغربي. مهما كانت حسابات إسرائيل في السيطرة على تلال وجبال حدودية، فإن الواجب اللبناني يقضي بتنفيذ أمرين: إتمام انسحابها بشكل كامل من كلّ شبر من أرض لبنان، وتأكيد انتشار الجيش اللبناني جنوباً لمرّة واحدة نهائية. مع ذلك، فإن تجدّد العدوان يبقى وارداً "لأيّ خطأ في التقدير"، العبارة التي لم ترحم اللبنانيين في الأشهر الأخيرة من العام الماضي.
وإذا كان انسحاب إسرائيل في 18 فبراير/ شباط الحالي أمراً يبقى في دائرة الشكوك، ومتصلاً بحسابات دولية، فإن الملفّ الوحيد الذي لا ينتظر تشكيلاً حكومياً ولا انسحاباً إسرائيلياً، يبقى الملفّ الأمني الداخلي. أسبوع واحد كان من الأكثر رعباً في لبنان. أمن متفلّت وجرائم متنقّلة وسرقات متعدّدة وإشكالات في كلّ يوم، وكأن أبواب الجحيم الداخلي فُتِحت على مصراعيها، وما على المواطنين سوى الدفاع عن أنفسهم في غياب أيّ دولة ترعاهم. وهنا بيت القصيد، لا يكفي لرئيس الجمهورية انتظار الحكومة كي يدفع بترتيب الوضع الأمني الداخلي. ربّما قد يكفل له قانون ما في وزارة ما، التصرّف بصورة استثنائية لحماية المواطنين، من دون تجاوز الدستور أو القوانين. أما في حال انتفاء وجود أي قانون محدّد، فإن دوره رئيساً للبلاد أن يحمي الناس، ولو اقتضى ذلك مخالفة القانون. لا ضير من حملة واسعة النطاق لاعتقال كلّ مطلوب منذ ولادة الجمهورية الأولى في عام 1943، ولو كان بعهدة زعيم سياسي أو حزب، من أجل طمأنة الناس. ليس عيباً تطهير القوى الأمنية، ونشرها بعد ذلك في لبنان كلّه من دون استثناء. الجرائم لن تنتظر تشكيل الحكومة، ولا رئيس الجمهورية قادر أن يقنع اللبنانيين بأنه غير قادر على التصرّف بمعزل عن وجود حكومة. كلّها تبريرات لا تنفع، في ظلّ بدء حرب الأجنحة بين المستشارين في أروقة القصر الجمهوري في بعبدا، شرقي بيروت. هناك، على الرغم من مرور بضعة أسابيع على بدء عهد "جديد ومختلف" للبنانيين، إلا أن رجالات عهود سالفة يتهاوشون على النفوذ والسعي إلى كسب "قلب الرئيس". وفي ذلك شعور لدى هؤلاء أن "أمامنا ستّ سنوات فقط". ما هكذا تُبنى الدول.
هناك أمور تتطلّب القيام بعمل "رجل دولة حقيقي"، الذي يتجاوز القانون لحماية المواطنين، من دون التحوّل ديكتاتوراً لحكمهم. يشبه الأمر رجل شرطة ينظّم السير، ويرى على سبيل المثال حريقاً اندلع من مكان قريب. يعلم الشرطي أن بوسعه إنقاذ الأرواح إن ساهم في إطفاء النيران، ريثما تأتي فرق الإطفاء. الشرطي هو رئيس الجمهورية اللبناني، والحرائق تعمّ لبنان. يبقى دوره أن يطبّق ما جاء في خطاب قَسَمّه هو بالذات، بقوله "عهدي أن أسهر على تفعيل عمل أجهزة القوى الأمنية على اختلاف مهامها كأداة أساسية لحفظ الأمن وتطبيق القوانين". هكذا تفوز بثقة اللبنانيين.