تقريع في بثّ مباشر

02 مارس 2025

ترامب وزيلينسكي في البيت الأبيض (28/2/2025 Getty)

+ الخط -

كان المتوقّع أن تنتهي زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي واشنطن إلى تفاهمات مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، على خلفية إعلان كييف موافقتها على إبرام اتفاق مع واشنطن حول دفع ما نسبته 50% من عائدات ثروات المعادن النادرة الأوكرانية إليها، لكنّ ما شاهده العالم في بثّ مباشر لما دار بين الرَجلَين، في اجتماعهما بالبيت الأبيض، من مشادّة كلامية حادّة في ظاهرةٍ غير مسبوقة في تاريخ الدبلوماسية العالمية والعلاقات الدولية، بدّد هذا التوقّع وعمّق من المشاعر السلبية المتبادلة بين الرَجلَين، خاصّة بعد جرعات التقريع التي وجّهها ترامب لضيفه، حدّ الإهانة والإذلال. ورغم مساعي زيلينسكي للردّ على كلمات ترامب، وكذلك نائبه جي دي فانس، اللاذعة، إلا أنّه بدا في وضع لا يُحسَد عليه، وترتّب عمّا جرى قطع الحوار وإلغاء المؤتمر الصحافي بين الرئيسَين، الذي كان مقرّراً بعد انتهاء المحادثات التي لم تكتمل، وانتهت من دون توقيع الاتفاق الذي من أجله قصَدَ زيلينسكي واشنطن.
أتى الرئيس الأوكراني بنيّة مقايضة الاتفاق الذي طالب به ترامب حول حصّةٍ لبلاده في معادن أوكرانيا النادرة بضمانات أميركية لأمن أوكرانيا، بعد إبرام أي اتفاق مع موسكو، وكذلك نيل موافقة واشنطن على عضوية كييف في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وأمل بأن تستعيد أوكرانيا على الأقلّ بعض أراضيها، التي أصبحت تحت السيطرة الروسية، فلم ينل من ترامب أي وعدٍ بذلك، بل واجه صدّاً بيّناً: لا ضمانات أمنية ولا عضوية متوقّعة في "ناتو"، ولا اتفاق من دون تقديم تنازلات. بل تمادى ترامب في تذكير زيلينسكي (وبشكل مهين) بما قدّمته واشنطن من دعم مالي وعسكري كبيرَين خلال السنوات التي انقضت منذ بدء الحرب مع روسياً قائلاً له: "أنت لست في وضع يسمح لك بأن تُملي علينا ما نشعر به، فلولا دعمنا ما كانت الحرب ستستمرّ أكثر من أسبوعَين، ومع ذلك لا تظهر لنا الامتنان، وتعاملنا بقلّة احترام"، وهدّده: "على كييف التوصّل إلى اتفاق مع الولايات المتحدة، وإلا ستوقف واشنطن الدعم الذي تقدّمه لها".
وحين عرض زيلينسكي على ترامب صوراً لفظائع الحرب، متهماً الروس بترحيل أطفال أوكرانيين وارتكاب "جرائم حرب" خلال غزوهم بلاده مدّة ثلاث سنوات، جاءه ردٌّ حادٌّ من ترامب: "إنك تخاطر بحياة ملايين البشر، تخاطر باندلاع حرب عالمية ثالثة". حوار مثل هذا كان متعيّناً أن يجري في اجتماع مغلق بين الرئيسَين، يحتدّ فيه النقاش، ويتبادل فيه الطرفان التهم، والمرجّح أن اجتماعاتٍ مشابهة لهذا، وربّما أكثر حدّةً منها، جرت في غرف مغلقة، بعيداً من الأعين وشاشات التلفزيون، بين زعماء دول داخلة في نزاع أو بينها خلافات شديدة، ولكن ترامب اختار أن تكون وسائل الإعلام حاضرة، وتنقل على الهواء مباشرة ما أراد قوله علانيةً للرأي العام، وفي ذلك ينسجم مع نقطة ضعفه؛ ولعه بالحضور الإعلامي، وربّما يكون هذا الولع بالذات أحد أسباب جاذبية شخصيته أمام قاعدته الشعبية، التي أوصلته إلى البيت الأبيض.
ولم يخف ترامب أن ما جرى في لقائه الصاخب مع زيلينسكي كان مرتّباً له بعناية، إذ قال وهو ينهي اللقاء: "حسناً، أعتقد أننا رأينا ما يكفي الآن، يمكنني أن أقول بثقة إن هذا سيكون بثّاً تلفزيونياً رائعاً". وقبل ذلك، وفي تعليقٍ له على ما قدّمه نائبه فانس للرئيس الأوكراني من نقد ولوم: "فقط عبّر عن امتنانك، مع الاعتراف بوجود خلافات، ودعنا نحلّ هذه النزاعات من خلال التقاضي بدلاً من محاولة مناقشتها في الإعلام الأميركي عندما تكون مخطئاً"، قال ترامب: "ومع ذلك، أعتقد أنه من المفيد للشعب الأميركي أن يرى ما يحدث".
بطريقته في التعامل مع الرئيس الأوكراني، أوصل ترامب رسائل عدّة، لا لضيفه فحسب، الذي وضعه في حال باعثة على الشفقة، وإنما أيضاً إلى الداخل الأميركي، وإلى الحلفاء الأوروبيين، الذين أوقعهم في مأزق، وكذلك إلى دول كثيرة، قد يجد زعماؤها أنفسهم ذات يوم في وضعٍ مشابه للذي كان فيه زيلينسكي، حين يختلف معهم في أمر، أو يرفضوا طلباً تقدّم إليهم به، وربّما سيفكّر بعض هؤلاء الزعماء طويلاً قبل أن يغامروا بأن يجدوا أنفسهم بجانب ترامب في مكتبه، فيما الكاميرات موجّهة نحوهم لبثّ كلّ شاردة وواردة، بما في ذلك تعبيرات أجسادهم.

كاتب وباحث من البحرين، صدرت له مؤلفات في قضايا الخليج، الثقافة، الأدب، السيرة، اليوميات، وغيرها
حسن مدن
كاتب وباحث من البحرين، صدرت له مؤلفات في قضايا الخليج، الثقافة، الأدب، السيرة، اليوميات، وغيرها.