بوتين والحاجة إلى الشرع
لم يُبنَ تشكّل الوقائع السياسية في العالم سوى على مبدأ "تأمين المصالح المتبادلة"، وكلّ ما يزعزع هذا المبدأ يؤدّي إلى توتّرات وصدامات وصولاً إلى اندلاع حروب.
الثلاثاء الماضي كان يوم الوفد الروسي في دمشق، وفي رئاسته نائب وزير الخارجية، ميخائيل بوغدانوف، ومبعوث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الخاصّ إلى سورية، ألكسندر لافرنتييف. جرى التوافق بين الوفد وقائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع، قبل تنصيبه رئيساً للبلاد الأربعاء الماضي، على الحاجة إلى تأمين المصالح المتبادلة بين الطرفَين. هي الحاجة نفسها التي دفعت الاتحاد السوفييتي إلى الاستعانة بسورية مركزاً أساسياً له في المياه الدافئة في عام 1971، وهي الحاجة نفسها التي روّجها بوتين لتدخّله العسكري في سورية بدءاً من 30 سبتمبر/ أيلول 2015، لدعم الرئيس المخلوع بشّار الأسد. أثبتت روسيا أن ما دفعها إلى دمشق في المرَّتَين الحاجة إلى حيّز جغرافي يسمح لها في ترك أبواب المضائق التركية إلى البحر الأسود مفتوحةً أمامها، وأيضاً نقل أيّ معركة موجّهة ضدّها بعيداً من البرّ الروسي من جهة أخرى.
من الصعب تخيّل أنه، قبل فترة قصيرة جداً، رُفعت صور مشتركة للأسد وبوتين في احتفالات شعبية في "سورية المفيدة"، الممتدّة من دمشق إلى الساحل السوري. واليوم لم يعد غريباً رفع صور مماثلة لبوتين والشرع، في حال حصلت، ولا حتى الحديث عن "مناورات سورية روسية مشتركة"، أو رفع وتيرة تعليم اللغة الروسية في سورية. ربّما قد يحصل ذلك وأكثر، غير أن المطلب الأساسي للشرع تلخّص في طلب دمشق من موسكو تسليم الأسد. تعلم روسيا أن الغرب اشترط على السوريين عدم التعاون معها في مقابل تسهيلات مرتبطة برفع العقوبات عن سورية، المفروضة منذ أيّام النظام المخلوع، وتقديم مساعدات واسعة النطاق. يدرك الروس أن موقف الشرع ليس سهلاً حيال تأمين المصالح المتبادلة، ما لم تسلّمه ورقةً تسمح له في التبرير أمام الغرب بضرورة التعاون مع روسيا في سورية. وليس هناك من ورقة أكثر أهميةً من تسليم الأسد وأعوانه إلى دمشق.
إلى أيّ حدّ يُمكن للروس فعلها؟ وما الرسالة التي يُمكن أن توجّهها إلى الفارّين السابقين إلى أرضها، خصوصاً من دول الجوار الروسي، كالرئيس الأوكراني الأسبق فيكتور يانوكوفيتش، الموالي لها؟ ماذا لو تهاوى العسكر المدعوم منها في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، واضطرّت قياداتهم للجوء إلى المنفى في موسكو؟ ما الذي سيضمن لهم عدم تسليمهم إلى قادة الأنظمة الجديدة في بلادهم باسم "المصالح المتبادلة"؟ في المقابل، ما الذي ستستفيد منه روسيا في احتضان بيادقها المنفيين، في ظلّ عقوبات غربية تنهشها بسبب غزو أوكرانيا؟
طالما تحدّث بوتين نفسه عن مفاهيم مرتبطة بإدارة النزاعات الدولية، عالماً أن المصالح المتبادلة هي التي تحكم مثل هذا العالم، يدرك أن أيّ تنازل يُمكن إدراجه في إطار "العواطف" سيدفع به في مرحلة لاحقة إلى التنازل أكثر، خصوصاً أن الأوليغارشيين في دائرته الضيّقة باشروا توجيه الإنذارات بشأن الوضع الاقتصادي.
المأزق الروسي الحالي، بما يتعلق بالعلاقة مع سورية الجديدة، سيحكم مستقبل روسيا الخارجي. ليس في الأمر مصادفة. سبق للروس أن خرجوا من قاعدتهم البحرية في طرطوس بعد انهيار السوفييت في عام 1971، ولن يكون غريباً تكرار مثل هذا المشهد. الأغرب وقع في الأصل: أظهر الروس والإيرانيون وحلفاؤهم أن ما ردّدوه من "تخلي الأميركيين عن حلفائهم"، قاموا به هم على أكمل وجه. لم تساند روسيا الأسد في معركته الأخيرة، واتهمت جيشه بالتقاعس. أمّا الإيرانيون، فغزة ولبنان والأسد شهود على ذلك. لا ذلك فحسب، بل إن الرئيس دونالد ترامب، بات حاجة ملحّة لبوتين وللنظام الإيراني. الأول يدعو إلى التفاهم معه، والثاني مستعدّ لإبرام اتفاق نووي معه. إذاً علامَ الاستناد إلى أن نظامي موسكو وطهران هما "جزء منا"، فيما كل ما يريدانه هو الحصول على الرضى الأميركي؟