الشعب السوري "الواحد" ليس واحداً

10 يونيو 2025

(فادي يازجي)

+ الخط -

يتجسّد التحدّي الأكثر أهميةً، المطروح أمام الحكومة السورية الجديدة، في الانتقال من الطابع الدعوي إلى حالة الفعّالية والواقعية في معالجة الاصطفاف الطائفي، الذي تشكّل (في الغالب الأعمّ) نتيجة سياقاتٍ متشعّبة، يتعلّق معظمها بأسباب انتهازية نفعية أو بالخوف من البديل الإسلامي المتشدّد. بالتالي، تغوّلَ الانقسام في بواطن السوريين تدريجياً وعلى تنويعات مختلفة عزفَ عليها نظام الأسد بحِرفيةٍ مذهلة، فأنتج أجيالاً منعدمة الانتماء، محاصرةً داخل كانتونات عازلة. وفي حقيقة الأمر، لا يمكن اختصار الانقسام بظاهرة معيّنة أو حتى تحديد ملامحه بدقّة، فالسوريون مختلفون في كلّ شيء، ومنقلبون حتى على أنفسهم. وثمّة جدلٌ مبرّرٌ يتعلّق بالجدوى من استمرار الانقسام المُحتقِن بالفِكَر المشوّهة والنمطية، وقد وصلت خطابات الكراهية إلى أقصاها، ليتبادر إلى الذهن تساؤلٌ ملحٌّ: ما الذي يجمع السوريين اليوم في ظلّ الحروب الطاحنة داخل الملتقيات والتظاهرات، وفي وسائل التواصل الاجتماعي، التي تُسرّع عملية التحيّز الجمعي عبر ما يعرف بـ"العدوى الطائفية"؟
كلّ حرب متصلة بسياقٍ مشبع بحمولة وافرة من الألم والغضب، بينما تنطوي، في جانب منها، على إرادة خبيثة ومضمرة لإعادة تشكيل الجسم السوري انطلاقاً من انتماء ضيّق أو حقد ملتهب أو حتّى نزعة أيديولوجية متطرّفة. وبالتساوق مع ما تقدّم، وفي أعقاب التحوّلات السياسية العميقة التي تشهدها سورية، يتحوّل كلّ فيديو تحريضي أو تسجيل صوتي مُفبرَك، وكلّ إشاعة ورواية أو صورة من مذبحة، مادّةً دسمةً لتمرير خطاب ديماغوجي تعبوي، ومن يخرج من فلكه يُسحق من دون رحمة، إذ لطالما اعتبرت لغة التحريض تكتيكاً ذكياً يستند إلى استراتيجية الحروب النفسية، لخلق حالة ممنهجة من الفوضى والتشرذم الداخلي. وهكذا بات السوريون يعيشون ارتباكاً غير مسبوق وانقلابات جذرية غير مُتحكَّم بها، وهذا الانهيار لا يعود إلى وحشية النظام السابق فقط، بل إلى ذهنية الجمهور نفسه، فما هو المتوقّع من سوريين "معارضين" كانوا يشعرون بالفرح، ويوزّعون الحلوى بعد قيام إسرائيل بقصف بلادهم، لأنّها (إسرائيل) فقط طرف مناوئ للأسد، بالتوازي مع تبرير سوريين "موالين" لاستخدام الأسد السلاح الكيميائي لمعاقبة المناطق المتمرّدة على سياسته، رغم أنّ الأبرياء هم الضحايا في الحالتَين، وحالياً، يُعاد إنتاج منطق العنف والتشفّي لكن بروحٍ أخرى، ما يجعل التعايش بين السوريين صعباً إلى حدّ كبير، لا يمكن إنكاره.

قد تكون الفيدرالية المؤقّتة جزءاً من تسويةٍ مرحلية لبلد يعيش في حالة مديدة من الفراغ الهُويَّاتي لا تحقّق شرط الأمّة الواحدة

من هنا برزت مسألة الفيدرالية لتتصدّر المشهد السياسي المُعقَّد، ويدور الحديث في أروقة كثيرة عن ضرورة طرحها واحدةً من أدوات الخروج من أزمةٍ عصفت ببلد تعمّقت فيه الانقسامات المجتمعية، ومُسخت فيه الهُويَّة الوطنية هُويَّاتٍ محلّيةً وطائفيةً وإثنيةً. في الضفّة الأخرى، وإذا ما أُدخل الشعب السوري غرفة "الإنعاش الفيدرالي"، من الصعب توقّع احتمالات نجاته من دون إعادة صياغة علاقة توافقية بين الدولة والمجتمع، لأنّ الفيدرالية نظام يحتاج إلى تربة مشبعة بالاستقرار، وإلا ستنتج ثماراً سامّة، تُغذّي الانقسام ولا تخلعه من جذوره. لذا يذهب محلّلون إلى أن على الرئيس أحمد الشرع إذا أراد تجنّب أخطاء النظام البائد إنشاء نظام فيدرالي حقيقي، يُعيد بناء الثقة بين المكوّنات السورية، رغم التحدّيات المتوقّعة، وأولها يتمثّل في مقاومة بعض الأطراف السياسية فكرةَ الانتقال من الحكم المركزي الصارم إلى نموذج يوزّع الصلاحيات بين الأقاليم، خصوصاً أنّ التصوّر السائد للفيدرالية لا يزال غامضاً، ومشحوناً برمزية الانفصال والتقسيم. وثانيها الريبة المتبادلة أساساً بين السوريين، والافتقار إلى ذاكرة جامعة يمكن البناء عليها. وثالثاً المواقف الإقليمية، خصوصاً موقف تركيا، إذ شدّد وزير خارجيتها على أنّ أنقرة لن تدعم أيٍَّ من أشكال البنية الفيدرالية في سورية.
أضف إلى ذلك أنّ بعض الدول العربية تعتبر الفيدرالية نموذجاً قابلاً للتعميم، لربّما يزعزع أركان حكمها. ذلك كلّه يأتي بالتوازي مع تأكيد الرئاسة السورية نفسها (رغم إعلان وزير الداخلية نيّته تقسيم البلاد بين خمسة قطاعات أمنية) رفضها أيّ محاولات لإنشاء كيانات منفصلة، وتحت أيّ مسمّى من دون توافق وطني شامل، وذلك بعد يوم من انعقاد المؤتمر القومي الأول لأكراد سورية في مدينة القامشلي، تحت عنوان "وحدة الموقف والصفّ الكردي". بطبيعة الحال ستفقد "الفدرلة" السورية جاذبيتها حكماً بسبب تناقضاتها العديدة، لأنها ستصطدم بأسئلة كُبرى تتعلّق بالهُويَّة والانتماء، وبالذاكرة المُتخمة بالمظلوميات الحيّة، لذا لا يمكن أن تكون نسخةً مسبقةَ الصنع، لأنها مشروع توافقي مقترن نجاحه بقدرة السوريين على صياغة عقد اجتماعي يُطيّب ذاكرتهم المليئة بالندوب. ثمّة من يؤكّد أنها حلّ إسعافي لحماية سورية من مشاريع التقسيم والتفتت، ليبرز متخوّفون منها، بذريعة أنّ الفيدرالية بحاجة إلى مكوّنات اجتماعية لا تتمكّن من العيش مع بعضها بعضاً، وهذا ليس موجوداً في التاريخ السوري. لذا هناك سؤال آخر يُبرِز نفسه وبقوة: هل الفيدرالية ممكنة، خاصّةً أن طرحها في الحالة السورية ليس جديداً، لكنّها لطالما أُحبطت قبل أن تتبلور، وأبرز تلك المحاولات تأسيس "اتحاد الدول السورية" عام 1922، ليحُلّ عام 1924، ويُستبدَل بنظام "الدولة السورية"، إذ لم يكن الدمشقيّون والحلبيّون، ولا حتى العلوّيون، راضين عن التجربة المبنية على النموذج السويسري.

لا يمكن أن تكون الفيدرالية نسخةً مسبقةَ الصنع، فهي مشروع توافقي نجاحه رهن بصياغة السوريين عقداً اجتماعياً

تأسيساً على ما سبق ذكره، يمكن تلمّس ملامح هذا الفشل بالعودة إلى محطّات فاصلة في التاريخ السوري منذ الاستقلال، لنجد أنّ المناطق السورية لم تُمنح سوى هامش ضئيل من الحكم المحلّي. ونتيجة لتراكمٍ طويل من الإقصاء المركزي، فُرضت الهُويَّة الواحدة في محاولةٍ لصهر المكوّنات المختلفة (قسراً) في نموذج أحادي أنتج أسوأ فسيفساء اجتماعية على الإطلاق، أدّت إلى الاحتقان المجتمعي، وعمّقت الشروخ بين السوريين، فغدوا جميعهم عبيدَ نظام ديكتاتوري حوّلهم "شركاءَ أعداءَ" بدلالة أن نشاهد سوريّاً اليوم يتعاطف مع كوارث العالم البعيد، من حرائق أميركا إلى زلزال تايلاند وفيضانات نيجيريا، ويسخر في الوقت ذاته من مصائب بلاده.
ولافتٌ للانتباه أنّ ثمّة خوارزميات تدفع بالأحداث الأكثر حساسيةً إلى السطح، بهدف زيادة طين السوريين بِلَّةً، لذا قد تكون الفيدرالية المؤقّتة جزءاً من تسويةٍ مرحلية لبلد يعيش في حالة مديدة من الفراغ الهُويَّاتي لا تحقّق شرط الأمّة الواحدة، والمشكلة هنا لا يمكن تقزيمها بالاختلاف البريء حول اسم سورية الجديدة، فالاسم، وإن جرى التوافق عليه، لن يُعبِّر عن هُويَّة البلد، ما لم يترافق مع مشروع وطني جامع يخدمه، لأنّ جوهر المأساة السورية سيطفو في السطح كلّما تعمّقت الاصطفافات الطائفية لتترك أثراً أليماً من التهميش لدى بعض المكوّنات.
نافل القول، لقد أثبت سقوط الأسد وهم التماسك والوحدة، لذا أيَّ متعلِّق بهُويَّته الصغرى يجعل من مسألة تقبّل الآخر حاجزاً شاهقاً أمام إعادة الاندماج بين السوريين؛ ابن اللاذقية لن يستسيغ أوامر ابن إدلب مثلاً، وابن حلب لن يتقبّل الوافد من السويداء، وابن دمشق لن يقبل استحواذ ابن الرقّة على خصوصيته... وطالما أنّ سورية مفتوحة على كلّ أنماط التحدّيات، يجب عدم استبعاد فكرة الفيدرالية كلّياً، فالعالم بعد المخاضات الكُبرى لم يُبْنَ مرّةً واحدةً، بل عبر محطّات شائكة من التفاوض والتجريب، ويبدو أنّ العبارة الشهيرة "الشعب السوري واحد" لم تكن تعني في جوهرها سوى أنّ السوريين كانوا ضحايا متساوين في "مزرعة الأسد"، وربّما لا شيء آخر.