أمّ كلثوم... صاحبة الزمان

متعلقات شخصية في متحف أم كلثوم في القاهرة (16/12/2001 فرانس برس)
خمسون عاماً على رحيل سيّدة الغناء العربي أمّ كلثوم، وما زال صوتها عنوان المزاج العربي، من مقاهي المدينة العتيقة في تونس إلى مقاهي سوق واقف في الدوحة. هذا ليس تشبيهاً مجازياً، إنما مشاهداتٌ منحتني إياها تجارب السفر والعمل ومصادفات التمشية والتسكّع في مدننا العربية، من المحيط إلى الخليج، فصوت أمّ كلثوم هو القاسم المشترك الأكبر (وليس الوحيد) بين الناطقين بالعربية كلّهم.
وبعد رحيلها بنصف قرن، وبعد تغير مزاج الغناء العربي كلّه، واتجاهه نحو مزيدٍ من التغريب، وربّما التخريب، تظلّ أمّ كلثوم هي "الستّ"، وحدها، من دون منازعات، أو شريكات، أو قريبات من مكانتها. أغنياتها دفء مساءات المقاهي، وسيرتها حكايات الكُتّاب والمثقّفين، وذكرياتها مادّة مقاطع مواقع التواصل الاجتماعي، وتجربتها موضوعات كتابات عربية وأجنبية، أكاديمية وصحافية، كتابات فنّية، وكتابات تاريخيّة، وكتابات سياسية، وكتابات أدبية، روائية وشعرية، كتابات جادّة تتجاوز الاحتفاء والتغنّي إلى البحث والتقصّي عن مزيد من جوانب العبقرية، ومحاولة الإجابة عن سؤال: ما سرّ أمّ كلثوم؟
لا يزعم كاتب السطور، وهو واحد من ملايين "السمّيعة"، قدرته على تقديم إجابة وافية، لكنّها محاولة تستند إلى مفهوم "حساسية العصر"، وهو أحد أكثر شواغل الفنّانين أهميةً في كلّ زمان، كما أنه أحد أكثر أسباب نجاحاتهم أهميةً من ناحية، ومعايير تقييمها من ناحية أخرى. قدرة المبدع على التقاط حساسية عصره، فهمها، وتمثّلها، ومن ثمّ تجسيدها عملاً فنياً، أو بالأحرى "خطاباً" إبداعياً، يساهم في تقديم العصر إلى أهله، وفي إعادة تخيّله في وجداناتهم، ومن ثمّ في صياغته. ولعلّ الوعي بحساسية العصر هو أحد أكثر القواسم المشتركة أهمية ً بين "الخالدين" من المبدعين في كلّ مجال، فإذا كان لزماننا صاحبة هي الأكثر إجادة في فهمه وتمثّله وتجسيده وصياغته، فهي أمّ كلثوم.
ورثت الشيخة أمّ كلثوم عن أبيها صنعة الإنشاد الديني، وهي الصنعة المصرية الفريدة، التي صاغت شخصية المراهقة والشابّة أمّ كلثوم، وألقت بظلالها على مسيرة صوتها وشخصيتها الفنّية والإنسانية. جاءت ثومة إلى القاهرة، في مطالع عشرينيّات القرن الماضي، كان سؤال "التجديد"، حينها، هو شاغل شيوخ مصر وعلماءها ومفكّريها وكُتّابها ومثقّفيها وصحافييها، ونخبتها في شتى المجالات، التجديد من أجل مجاوزة التخلّف، والتجديد من أجل مقاومة المحتلّ، والتجديد من أجل الإصلاح، والتجديد من أجل الاستقلال. وكان الغناء المصري يبحث عن نفسه، وعن دوره، عن الكلمة الجديدة، وعن اللحن الجديد، وعن الأداء الجديد، لكنّ ظلال المحتلّ، وتغوّل أفكاره وذائقته على حيواتنا، دفعت أغلب المجدّدين إلى البحث "المستقلّ" المُعتَدِّ بنفسه، وبتراثه، دفعتهم إلى إدراك الفارق بين مراقبة العصر والذوبان فيه، إلى الإمساك باللحظة الزمنية لاستخدامها، وليس لخدمتها، ومن ثمّ لاستئناف مسيرة الإنشاد الديني والغناء الشرقي، وحتى غناء العوالم، وليس لتبديد ذلك كلّه، أو للتنكّر له، أو للانقلاب عليه.
من هنا بدأت "ثومة"، فأحاطت نفسها بأصحاب التجارب الجادّة، في الإجابة عن سؤال التجديد، والقدرات الخاصّة في تمثّل العصر، وكان هذا هو "منهج العمل"، ومعيار الاختيار، اختيار الملحّنين من أبي العلا محمّد، ومحمّد القصبجي، وزكريا أحمد، إلى محمّد عبد الوهاب، وبليغ حمدي، وكمال الطويل، ومحمّد الموجي، وسيّد مكّاوي، واختيار الشعراء من أحمد رامي، وبيرم التونسي، وأحمد شوقي، إلى عبد الفتاح مصطفى، ومرسي جميل عزيز، وحسين السيّد، وعبد الوهاب محمّد. كانت أمّ كلثوم هي ضابط إيقاع هؤلاء جميعاً، إيقاع ألحانهم، وإيقاع كتاباتهم، وإيقاع التوفيق بين الكلمة واللحن، من يكتب ماذا؟ ومن يلحّنه؟ وكيف تؤدّيه؟ ومتى تطرحه؟ في أيّ توقيت؟ وفي أيّ ظرف؟ وفي أيّ حفل؟... كان حَدْس الشيخة، المُنشِدة، تربية الموالد، أمّ كلثوم، مؤشّراً حسّاساً لمزاج "السمّيعة"، ومن ثمّ استخدمت أفذاذ الملحّنين والكُتّاب، في زمانها، لمخاطبة هذا المزاج، ليس لاسترضائه، إنّما لاستدراجه إلى منطقة نفوذ الستّ، إلى عصرها الذي أنجبها فصاغته، إلى زمانها الذي عرفته فاستقامت طريقتها، ومن ثمّ أسطورتها الخالدة.