ضحايا المناطق العازلة... فلسطينيو غزة في حصار أبدي

13 ابريل 2025
انتشال 700 جثمان من المناطق العازلة خلال فترة التهدئة (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- المناطق العازلة وتأثيرها: يفرض جيش الاحتلال الإسرائيلي مناطق عازلة في غزة، مما يعزل الفلسطينيين عن منازلهم وأراضيهم، ويؤدي إلى تهجير السكان وتدمير البنية التحتية، مما يزيد من معاناتهم الإنسانية.

- المخاطر والاعتداءات: يتعرض الفلسطينيون في المناطق العازلة لخطر الاستهداف من جيش الاحتلال باستخدام الرصاص الحي والطائرات المسيرة، مما أدى إلى سقوط شهداء، بما في ذلك أفراد من فرق الدفاع المدني.

- الانتهاكات القانونية: تُعتبر إقامة المناطق العازلة انتهاكاً للقانون الدولي، الذي يحظر ضم الأراضي بالقوة، وتُعد جزءاً من استراتيجية استعمارية لتغيير التركيبة السكانية لصالح الاحتلال.

تحاصر المناطق العازلة التي يوسعها جيش الاحتلال فلسطينيي قطاع غزة ممن قضوا حياتهم داخل أكبر سجن في الهواء الطلق، مستهدفاً من يحاولون الوصول إلى منازلهم لجلب احتياجات ضرورية، كما تصل نيران إلى القاطنين في جوارها.

- نجا العشريني الغزي عز الدين شقفة من الموت ثلاث مرات خلال محاولاته الوصول إلى منزله في حي تل السلطان غرب مدينة رفح جنوب القطاع، إذ استهدفه جيش الاحتلال مرتين بإطلاق الرصاص، وفي الثالثة لاحقته طائرة مُسيرة أسقطت قنبلة بالقرب منه، فاحتمى لمدة ساعة خلف جدار متداع من منزله الذي سبق أن تسلل إليه أربع مرات خلال فترة التهدئة في فبراير/شباط الماضي، جالباً بعض الحاجات الأساسية كالفرش، والأغطية، وكل ما يمكن أن يعين أسرته على مآسي النزوح.

على الرغم من خطورة التوجه إلى الحي، بسبب المنطقة العازلة المقامة جنوب المدينة، يقول شقفة لـ"العربي الجديد"، "ما دفعني إلى المغامرة هو حاجتي إلى متطلبات أساسية من أجل تجهيز الخيمة التي باتت المأوى في مواصي خانيونس، في ظل افتقار أسواق القطاع إلى كل ما يلزم"، مؤكداً أنه كان يُخطط للعودة، لكن ما شهده في الفترة الماضية من تصاعد في استهداف كل من يصل إلى المنطقة العازلة وتهجير قسري لسكان رفح جعل الأمر مستحيلاً، ودفع الناشطين في مجال العمل الإنساني ومن بينهم محمد صلاح قشطة إلى إطلاق تحذيرات من التوجه إلى ما يعرف بـ"المناطق الحمراء"، كما يُسميها جيش الاحتلال، إذ نصبت فيها رافعات آلية، مزودة برشاشات وبنادق قنص، كما يجري تسيير عشرات الطائرات المسيرة الصغيرة لقتل كل من يقترب منها.

تهجير قسري لأهالي رفح لتوسيع المناطق العازلة

 

خريطة المناطق العازلة

يسيطر جيش الاحتلال على مساحات مختلفة في القطاع بعد تجريفها وهدم مبانيها، ومن ثم وضع آلياته فيها وإقامة مواقع عسكرية، تخلق مناطق يُمنع الغزيون من الدخول إليها ويستهدف كل من يحاول الوصول إلى ما تبقى من بيوت فيها، وأكبر تلك المناطق عبارة عن شريط واسع شرقي القطاع ويشمل شرق رفح، وشرق خانيونس، وأجزاء مخيمي البريج والمغازي، وحيي الزيتون والشجاعية بطول 42 كيلو متراً، وعرض يراوح ما بين 700 و1000 متر، والمنطقة الثانية تشكلت على شريط آخر على طول محور صلاح الدين الحدودي جنوب رفح المعروف "بمحور فيلادلفي"، بطول 13 كيلو متراً ويصل عرضها إلى 1500 متر في عمق المدينة، وبعد شهرين جرت توسعة المحور لتتحول رفح بأكملها منذ الأول من إبريل/نيسان الجاري، إلى منطقة عازلة بعد طرد جميع سكانها، وإجبارهم على النزوح إلى محافظة خانيونس، تمهيداً لاحتلالها وحصارها وعزلها عن باقي القطاع، وتتمثل المنطقة الثالثة في شريط شمال القطاع بطول 10 كيلو مترات، وعرض 1000 متر، وبدأ الاحتلال بتوسيع هذه المنطقة في 25 مارس/آذار الماضي، بعد إصدار أوامر إخلاء لسكان مدينتي جباليا وبيت لاهيا، وبلدة بيت حانون، الذين تركوا منازلهم وتوجهوا إلى غرب مدينة غزة. وبالإضافة إلى ما سبق ثمة منطقة رابعة على طول محور "نتساريم" (ممر رئيسي يفصل مدينة غزة وشمال القطاع عن المنطقة الوسطى والجنوب)، وتمتد المنطقة العازلة على جانبي المحور بمساحة كيلومترين، وبسببها تم تدمير نصف مخيم النصيرات، ونصف حي الزيتون، وأجزاء واسعة من مخيم البريج، وقرية المغراقة بالكامل. وتشكل الجهة البحرية منطقة عازلة خامسة، حيث سيطر الاحتلال على كامل بحر غزة، ومنع الغزيين من الوصول إليه، كما يشرح الأوضاع الحالية، إسماعيل الثوابتة، مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة.

80 شهيداً من عائلة قشطة ارتقوا خلال وجودهم داخل إحدى المناطق العازلة

وتهدف سياسة الاحتلال عبر خلق هذه المناطق إلى فرض وقائع ميدانية جديدة على الأرض، فهي ليست مجرد إجراءات أمنية، بل شكل من أشكال العقاب الجماعي والتهجير القسري، بما يخالف جميع اتفاقات التهدئة التي ضمنت حرية حركة الغزيين وعدم التعدي على أراضيهم، لكن ما يحدث فعلياً هو توسيع هذه المناطق خاصة بعد تجدد العدوان في مارس الماضي، وإجبار السكان على الإخلاء كما يحدث شمال القطاع في جباليا، وبيت لاهيا، وبيت حانون، ما يفاقم الأوضاع الإنسانية ويخلق مزيداً من الضغط على المناطق الأكثر ازدحاماً داخل القطاع مثل وسط وغرب خانيونس، وغرب مدينة غزة، التي لجأ إليها النازحون ممن كانوا يقيمون في المناطق العازلة المذكورة أو محيطها، كما يؤدي ذلك إلى تدمير القطاع الفلاحي عبر منع المزارعين من الوصول إلى أراضيهم خاصة شرق خانيونس وهي بمثابة سلة الخضراوات الرئيسية في القطاع، لتتفاقم المجاعة المتفشية في القطاع جراء منع دخول الاحتياجات الإنسانية والإغاثية إلى القطاع، بحسب الثوابتة.

 

المنطقة الأخطر

تدخل هذه المناطق في قلب سلسلة من الاحتياطات الأمنية الجديدة لحماية مستوطنات غلاف غزة عبر خلق سياج أمني، لذلك عملت دولة الاحتلال منذ اليوم الأول من الحرب على غزة على خلق مساحة عازلة داخل القطاع، مفتوحة ومكشوفة، ليتمكن جيشها من رصد أي تحركات للمقاومة، كما يقول الباحث المتخصص في العلوم السياسية والمحلل في شبكة السياسات الفلسطينية (مؤسسة فكرية مستقلة)، طلال أبو ركبة، مشيراً إلى أن تلك المناطق يراوح عمقها ما بين 500 و1000 متر، وبذلك تُصادر نحو 120 كيلو متراً مربعاً من مساحة القطاع الإجمالية البالغة 360 كيلو متر مربع، كما يجرى توسيعها بعد تجدد العدوان، خاصة في المناطق الشرقية والشمالية من القطاع، حيث الخطوط الحدودية الفاصلة.

وتعدت خطورة تلك المناطق ما يجري بداخلها، إذ يصل الرصاص والقذائف التي تُطلقها قوات الاحتلال فيها إلى قلب الأحياء السكنية، كما حدث وسط رفح، حيث كان الأربعيني حذيفة لافي وأشقاؤه وأسرهم يعيشون قبل نزوحهم، بالرغم من أن منزلهم يبعد نحو 1800 متر عن محور صلاح الدين، لكن الرصاص والقذائف التي تطلقها الدبابات المتمركزة في المنطقة العازلة وصلت إلى جوارهم 5 مرات خلال الشهر المنصرم.

استهداف البشر والبنيان لتوسيع المناطق العازلة في قطاع غزة

ويُجمع 10 غزيين من سكان رفح، وشرق خانيونس، من بينهم محمود النجار، وحذيفة لافي، على أن المنطقة العازلة على الحدود المصرية، هي الأكثر خطورة على الإطلاق، إذ استشهد داخلها منذ الانسحاب من رفح في التاسع عشر من شهر يناير/كانون الثاني الماضي 50 شهيداً وفق بيانات وزارة الصحة في غزة، يليها مناطق شرق القطاع وشماله، وارتقى فيها 25 شهيداً، إلى جانب 20 شهيداً على محور نتساريم، بينما شهدت المنطقة العازلة باتجاه البحر ارتقاء 5 شهداء في الفترة نفسها، وهو نمط من استهداف المدنيين العزل رصدته ليما بسطامي مديرة الدائرة القانونية في المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان (منظمة مستقلة مقرها جنيف)، قائلة لـ"العربي الجديد"، منذ بداية التهدئة في التاسع عشر من يناير الماضي حتى السابع عشر من مارس الماضي، قتل جيش الاحتلال الإسرائيلي 175 فلسطينياً وأصاب 724 آخرين، بمعدل 3 شهداء و13 جريحاً يومياً، واستُهدف كثير منهم داخل منازلهم، أو أثناء محاولتهم العودة إليها لتفقد ممتلكاتهم، وحتى في المناطق التي يُفترض أنها آمنة، بينما قُتل 100 منهم قرب أو داخل ما يسمى بـ"المنطقة العازلة" التي فرضها الاحتلال على طول الحدود الشمالية والشرقية لقطاع غزة.

 

لماذا يعود الفلسطينيون؟

يعي الناشط قشطة جيداً خطورة الوصول إلى المنطقة العازلة في رفح، بسبب التجربة المريرة التي عايشتها عائلته، إذ قطنت 1200 أسرة من العائلة المُمتدة جنوب المدينة، وهؤلاء دمر الاحتلال 1000 منزل تعود إليهم. ومن بين 110 شهداء من الأسرة، ارتقوا خلال الحرب، 80 ضحية سقطوا خلال محاولات الوصول إلى منازلهم في مناطق جنوب رفح.

قتل الاحتلال 15 شهيداً من أطقم الهلال الأحمر والدفاع المدني 

ويحاول الاحتلال فرض منطقة عازلة جديدة في بلدة عبسان ومنطقة الشجاعية، إذ أصدر الجيش الإسرائيلي أوامر إخلاء لقاطنيها ويستهدفهم بالقصف المدفعي، تمهيداً لتعميق المنطقة العازلة في الجهتين، بحيث تصل إلى 2000 متر وتبتلع بلدة عبسان شرق خانيونس وحي الشجاعية شرق مدينة غزة بالكامل، ورغم توسيع تلك المناطق وخطرها، لا يجد الغزيون مفراً من الدخول إليها، بسبب ضرورات تفرضها عليهم حياة النزوح ومقاساة شظف العيش في ظل الحرب وآلام الجوع والمرض المتفاقمين بحسب ما يؤكده 20 شخصاً تحدث إليهم معد التحقيق، وتقع منازلهم داخل المناطق العازلة شرق القطاع، وجنوب رفح، ويؤكد 15 منهم أنهم أو أقاربهم عادوا إلى المناطق العازلة، واستشهد أو أصيب منهم أو من أقاربهم 9 ونجا آخرون، في حين قال 5 من بينهم أنهم يرغبون في الوصول إلى بيوتهم أو أنقاضها، لكنهم يخشون أن يتعرضوا للقتل أو الإصابة.

الصورة
مناطق عازلة في غزة (Getty)
يستهدف جيش الاحتلال المدنيين وفرق الدفاع المدني في حدود المناطق العازلة (Getty)

ولا يقتصر المنع على المدنيين، بل يشمل فرق الدفاع المدني التي لم تتمكن من الوصول إلى المناطق العازلة لسحب الجثامين منها، ومن حاول، تعرض للقتل، كما وقع لـ 15 شهيداً من أطقم الهلال الأحمر والدفاع المدني الفلسطينيين، قتلهم الاحتلال في مدينة رفح، ودمر مركباتهم ودفنهم في مقبرة جماعية لإخفاء الجريمة. وبالرغم من ذلك نجحت طواقم أخرى في الوصول إلى 700 جثمان خلال فترة التهدئة، بحسب الناطق باسم الدفاع المدني الرائد محمد بصل، مؤكداً أنه ما يزال عدد كبير من الجثث عالقة في المناطق العازلة وتواجه فرق الدفاع المدني صعوبات كبيرة في انتشال هؤلاء وكذلك الضحايا الجدد، وهو ما جرى لأحد أفراد عائلة محمد أبو جزر، كما يقول لـ"العربي الجديد" :"فُقد قريبي بعد دخول المنطقة العازلة جنوب رفح، ويعتقد أنه استشهد هناك، وما زالت العائلة والدفاع المدني يعجزان عن الوصول إلى جثمانه". ويتابع بصل: "الدخول إلى المناطق الحمراء، التي يصفها الاحتلال بالمناطق العسكرية المغلقة، من المفترض أن يكون مسموحاً به لطواقم الدفاع المدني، التي لديها حصانة ويجب السماح لها بالتحرك لنجدة المدنيين، وليس قتلها وإلقاء أفرادها في مقابر جماعية".

جرائم حرب

تنظر بسطامي إلى إنشاء ما يسمى بـ"المناطق العازلة"، وبالاستناد إلى السجل التاريخي لإسرائيل، على أنها أداة استيطانية وجزءٌ من استراتيجية استعمارية منهجيّة، تهدف إلى فرض وقائع جديدة على الأرض الفلسطينية المحتلة، وضمّها والاستيلاء عليها، وتهجير سكانها الفلسطينيين قسراً، وإعادة رسم جغرافيتها بالقوة، بطرق تؤدي إلى تغيير تركيبتها السكانية لصالح الاحتلال، لترسيخ وجوده غير القانوني هناك، وتحويله إلى واقع دائم لا رجعة فيه.

ويحظر القانون الدولي ضمّ الأراضي بالقوة على نحوٍ مُطلق، باعتباره قاعدة آمرة لا تقبل الاستثناء، مهما كانت الذرائع، بما فيها الادّعاءات الأمنية التي تروّجها إسرائيل، فاتفاقيات لاهاي وجنيف تحظر قطعياً ضمّ الأراضي المحتلة، أو فرض أي شكل من أشكال السيادة عليها من سلطات الاحتلال، كما تقول بسطامي، وتستدرك: "يبقى الاحتلال في نظر القانون الدولي مجرّد وضع مؤقّت لا يمنح الدولة المحتلة أيّ حقوق سيادية على الأرض التي تحتلها، بل على العكس، يُحمّلها التزامات صارمة، في مقدمتها: الحفاظ على الوضع القائم، وحماية السكان المدنيين، ومنع أي تغيير في التركيبة الجغرافية أو الديموغرافية للأراضي المحتلة، بما في ذلك ضمّها أو مصادرتها لصالح القوة المحتلة".

ووفق بسطامي فهناك تطبيقات قضائية واضحة حول الوضع القانوني لاستيلاء إسرائيل على الأراضي الفلسطينية أصدرتها محكمة العدل الدولية، وهي أعلى هيئة قضائية في العالم، في رأيها الاستشاري لعام 2004، مؤكدة أن دولة الاحتلال لا يمكنها التذرّع بحق الدفاع عن النفس لتبرير الاستيلاء على الأراضي، طالما أنّ التهديدات الأمنية التي تزعم مواجهتها تنشأ من داخل الأراضي المحتلة الخاضعة لسيطرتها الفعلية، وليس من خارجها، وهو ما عادت للتشديد عليه في رأيها الاستشاري لعام 2024، بأن إسرائيل لا تمتلك أي سيادة أو حقوق سيادية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، وأنّ مخاوفها الأمنية لا يمكن أن تبرّر انتهاك القاعدة الآمرة التي تحظر اكتساب الأراضي بالقوة. وبناءً على ذلك، خلصت المحكمة إلى أن هذا الاستيلاء لم يعد مجرد انتهاك للقانون الدولي، بل كان عاملاً جوهرياً في كون الوجود الإسرائيلي في هذه الأراضي غير قانوني، ما يوجِبُ إنهاءه في أسرع وقت ممكن.