التحريض على المهاجرين... شعبوية تهدد صحة الفرنسيين

13 يناير 2025
تسييس ملف الهجرة مخاطرة بالصحة والسلامة العامتين (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تستهدف الحملات الشعبوية في فرنسا المهاجرين، متهمة إياهم بالتسبب في عجز الخزينة بسبب استفادتهم من برنامج المساعدة الطبية، بينما يوضح الخبراء أن البرنامج ضروري لصحة الجميع ولا يشكل عبئاً كبيراً على الاقتصاد.
- يواجه المهاجرون غير الشرعيين صعوبات في الوصول للرعاية الصحية، حيث أن 49% منهم لا يستفيدون من البرنامج بسبب نقص التوعية، مما يبرز أهمية التوجيه.
- النقاش حول إلغاء المساعدة الطبية جزء من الديماغوجية السياسية، حيث يؤكد الخبراء أن توفير الرعاية الصحية للمهاجرين يحافظ على الصحة العامة ويقلل التكاليف.

تستهدف حملات شعبوية سياسية المهاجرين في فرنسا، ومن بين أبرز المحرضين وزير الداخلية الذي يتهمهم بالتسبب في عجز الخزينة لأنهم يستفيدون من برنامج حكومي للمساعدة الطبية، متجاهلاً حجمه البسيط وأهميته لصحة المواطنين.

- يسخر المسؤول في منظمة أطباء العالم، كلود بوير، من ادعاءات اليمين الفرنسي المتطرف وحملاته التي تستهدف المهاجرين غير القانونيين، بذريعة استغلال واستنزاف الموارد الفرنسية عبر برنامج "المساعدة الطبية الحكومية"، قائلاً "لم أصادف شخصاً خاطر بحياته وعبر البحر المتوسط للوصول إلى البلاد من أجل إصلاح أسنانه".

يعمل بوير في مركز صحي بالدائرة الباريسية الثانية عشر، ويُعنى بمساعدة المهاجرين في إتمام المعاملات الإدارية للاستفادة من البرنامج الصحي، والذي تستهدفه أحزاب مثل التجمع الوطني (يميني متطرف)، وحزب "الجمهوريون" (يميني جمهوري بات يميل نحو التشدد وكان يعرف بحزب التجمع من أجل الجمهورية)، من أجل وقفه وحرمان المهاجرين من المعاينة في العيادات الخارجية، والخدمات الاستشفائية، ومن أبرز المحرضين وزير الداخلية برونو ريتايو كما يقول.

 

تفنيد ادعاءات وزير الداخلية

للتسجيل في البرنامج، يتوجب على المهاجر استيفاء بعض الشروط، أبرزها أن يكون مقيماً على الأراضي الفرنسية بصورة غير قانونية منذ ثلاثة أشهر على الأقل، وأن لا يتجاوز دخله السنوي 10.166 يورو للفرد، و15.249 يورو لعائلة مكونة من شخصين و18.298 يورو لعائلة من ثلاثة أفراد، وتعكس قيمة الدخل الظروف الصعبة التي يعيشها المهاجرون وعدم قدرتهم على الحصول على رعاية طبية لائقة.

وبالرغم من ذلك، صدر تقرير عن برنامج المساعدة الطبية الحكومية، في ديسمبر/كانون الأول 2023 بناء على طلب مشترك من وزيري الداخلية والصحة، وخلص إلى أن إجمالي المستفيدين بنهاية العام ذاته، بلغ 466 ألفاً. وبميزانية ناهزت 968 مليون يورو في العام 2022، ومن بعدها راح السياسيون يستهدفون البرنامج بشكل متكرر، ومن أبرز التصريحات، ما قاله في 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي وزير الداخلية وهو عضو في حزب "الجمهوريون" ويعرف بتبنيه خطاً محافظاً - متشدداً في ما يخص الملفات السيادية والاجتماعية، بأنه لا بد من حصر البرنامج في الخدمات الصحية الطارئة، بسبب التكلفة المالية والتي ترقى إلى مستوى العبء على الخزينة. والحجة الأخرى اعتبار هذا النوع من الخدمات أحد عوامل جذب المهاجرين غير الشرعيين إلى فرنسا، فهل ادعاء الوزير صحيح؟

يرد الخبير الاقتصادي جان كريستوف ديمون على هذه الحجج بصفته رئيساً لوحدة الهجرة الخارجية في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD (تأسست عام 1961 في باريس)، قائلاً إن تكلفة البرنامج لا تشكل أي عبء على خزينة الدولة نسبة إلى حجم الاقتصاد الفرنسي خاصة أن هذا المبلغ لا يقارن بميزانية الضمان الاجتماعي لعموم الفرنسيين والتي حددت بـ640 مليار يورو في عام 2024. على خط مواز واستناداً إلى تقرير صادر عن المنظمة التي يعمل فيها ديمون، بعنوان "الآفاق المستقبلية للهجرة الدولية"، فإن المعايير التي تحدد وجهة المهاجرين غير الشرعيين هي اللغة وشبكة العلاقات الاجتماعية وفرص العمل. بالتالي، التقديمات الاجتماعية لا تدخل في الحسبان وإن وجدت تبقى حالات مستقلة.

تكشف بيانات حكومية أن تكلفة البرنامج لا تشكل عبئاً على خزينة الدولة

حديث ديمون لـ"العربي الجديد" ينسجم مع ما ورد في التقرير الصادر عن برنامج المساعدة الطبية الحكومية والمعروف بـ(ستيفانيني - إيفان)، نسبة إلى من عملا عليه، إذ أشار إلى أن 51% فقط من إجمالي مستحقي المساعدة الطبية الحكومية يستفيدون منها. بمعنى آخر 49%، من المهاجرين غير الشرعيين في فرنسا والمستوفين للشروط، لم يبادروا إلى التسجيل في البرنامج المذكور.

 

البرنامج مجهول للمهاجرين

التقى "العربي الجديد" بعشرة مستفيدين من برنامج المساعدة الطبية الحكومية، ينتمون إلى جنسيات متعددة (الجزائر، المغرب، تونس، السودان، ساحل العاج، الكاميرون). جميعهم أكدوا أنهم لم يعلموا شيئاً عن البرنامج إلا بعد وصولهم إلى فرنسا، بل إن ثلاثة أشاروا إلى أنهم حصلوا على معلومات عنه عقب إصابتهم بعارض صحي. العشريني الجزائري عزيز (اسم مستعار لأنه يقيم بصورة غير شرعية) وشاب آخر مغربي الجنسية صرحا أنهما بعد إصابتهما بوعكة صحية توجها إلى مركز منظمة أطباء العالم معتقدين أنه المكان الوحيد الذي يوفر لهما علاجاً مجانياً ليتم إخطارهما بالمساعدة الطبية الحكومية ومعاونتهما على التسجيل به واستصدار البطاقة اللازمة.

49% ممن تنطبق عليهم شروط الاستفادة من البرنامج لا يستفيدون منه

أما الأربعيني التونسي هيكل (اسم مستعار للسبب ذاته) فتوجه بداية إلى قسم الطوارئ في أحد المستشفيات بعد تعرضه لوعكة صحية وهناك أبلغته المرشدة الاجتماعية بوجود المساعدة وأعطته عنوان المنظمة لتساعده على تحضير ملفه. فيما قال مهاجر غير شرعي من ساحل العاج أنه لا علم له بتفاصيل المساعدة وأنه لم يتوجه إلى مركز المنظمة للمباشرة بالإجراءات الإدارية إلا بعد إصابته بعارض صحي.

إفادات المصادر السابقة أكدتها منسقة البرامج في منظمة أطباء العالم، مارت شابرول، من خلال تجربتها الميدانية والتي لاحظت فيها أن عدداً من المهاجرين غير الشرعيين يقصدون مقار المنظمة معتقدين أنه المكان الوحيد الذي يوفر لهم الرعاية الطبية، ليتم إخطارهم بحقوقهم التي يجهلونها والتي توفر لهم رعاية صحية أشمل من التي توفرها المنظمة.

الصورة
مهاجرون غير شرعيين في أحد المراكز الصحية لمنظمة أطباء العالم في باريس
مهاجرون غير شرعيين في أحد المراكز الصحية لمنظمة أطباء العالم في باريس (العربي الجديد)

 

اختلاق أعداء لتحميلهم مسؤولية عجز الخزينة

برأي شابرول وكلود بوير، كل النقاش الدائر حول إلغاء هذه المساعدة يدخل في خانة الديماغوجية والشعبوية وغايته إما التغطية على الخلل في إدارة المؤسسات العامة أو اختلاق أعداء تلصق بهم تهمة عجز الخزينة بعدما بلغ 6.1% في العام الماضي، بينما الحد الأقصى الذي يتعيّن على الدول المنضوية في منطقة اليورو الامتثال له، لا يزيد عن 3%.

في هذا السياق، قال بوير إن "هناك انعداماً في المسؤولية لدى السياسيين الذين يخاطرون بالصحة والسلامة العامتين عبر تسييس هذا الملف". وما قصده أن هذه المساعدة لها مردود إيجابي على صحة الفرنسيين، مستنداً إلى موقف الكوادر الصحية، ففي عام 2023 وفي سياق إعداد قانون جديد للهجرة، طرحت أحزاب فرنسية إلغاء المساعدة الحكومية ليبادر في حينها 3 آلاف فرد من الكادر الصحي إلى التوقيع على عريضة منددة بهذا الإجراء. وحين جدد وزير الداخلية هذا الطرح مؤخراً، قام ثمانية من وزراء الصحة السابقين بالتوقيع على عريضة مشابهة.

من بين الموقعين الأستاذ الجامعي والبروفيسور المختص بأمراض المناعة في مستشفى "كريتاي" جان دانييل لولييفر والذي قال لـ"العربي الجديد" إن عدم توفير العلاج لهذه الشريحة لا يعني فقط مضاعفة احتمال إصابتهم بأمراض، بل نشرهم لهذه الأوبئة في محيطهم أيضاً. يتوقف لولييفر عند جائحة كورونا متسائلاً: "لو لم توفر لهم اللقاحات والرعاية، هل كان بالإمكان السيطرة على الموقف؟".

 

كيف تهدد الديماغوجية صحة الفرنسيين؟

انطلاقاً من احتكاكها بالمستفيدين من هذا البرنامج، تقول مارت شابرول إن حجب فرنسا للمساعدة الطبية الحكومية عن المهاجرين غير الشرعيين سيؤدي في المقام الأول إلى انتشار أمراض كالسل أو تلك المنقولة جنسياً كالايدز.

تؤكد شابرول خطورة الظروف المعيشية للمهاجرين غير الشرعيين (غياب مسكن صحي، سوء التغذية، التشرد)، ما يرفع احتمال إصابتهم بالأمراض مقارنة بباقي سكان فرنسا وما يعنيه من ارتفاع معدل الوفيات.

وإلى ما ذكرته شابرول، يضيف البروفيسور لولييفر: "توقيعي على العريضة يأتي انسجاماً من قَسَم أبقراط الذي ينص على معالجة المرضى بغض النظر عن خلفيتهم". ولا ينكر أن الإقامة غير الشرعية لهؤلاء الأفراد تجعل منهم مسألة إشكالية إذا ما قوربت من زاوية قانونية، لكننا أمام مسؤولية الحفاظ على الصحة العامة، وفقاً لتعبيره. يتابع: "حتى لو قورب الموضوع من زاوية اقتصادية نجد أن استمرار العمل بهذا البرنامج يبقى أكثر جدوى، فعندما تسوء الحالة الصحية للمصاب سيلجأ إلى الطوارئ وحينها سيكون توفير العلاج إلزامياً لكن بتكلفة أعلى".

لكن النائبة عن حزب الجمهوريين، فيرونيك لواجي، التي تتولى التدقيق في نفقات الصحة انطلاقاً من منصبها كنائبة لرئيس اللجنة المالية في الجمعية الوطنية، ترى أن تأمين الرعاية الصحية للمهاجرين غير الشرعيين "مكلفة"، كونهم غير منتجين من وجهة نظرها، وبالتالي لا يساهمون في تمويل ميزانية الضمان الاجتماعي. وليس من الإنصاف كما تقول في ردها المكتوب على "العربي الجديد" أن "يستفيدوا من الخدمات ذاتها الموفرة لأولئك الذين يساهمون في اقتصاد البلاد".

يرد ديمون على ما سبق بالقول إن المهاجرين غير الشرعيين يعملون على الأراضي الفرنسية، بعضهم بعقد عمل وبعضهم بالأسود (دون تصريح)، مضيفاً: "هؤلاء يساهمون بشكل أو بآخر في الدورة الاقتصادية وإذا كان لا بد من خفض نفقات المساعدة الطبية الحكومية، الأجدى تسوية أوضاعهم ليصبحوا مساهمين في الضمان الاجتماعي ويتجنبوا استغلال بعض أرباب العمل الذين يمتنعون عن إبرام عقود بذريعة وضعهم القانوني. بالتالي من المجحف تصوير المهاجرين غير الشرعيين باعتبارهم عبئاً وإنكار قيمتهم المضافة".

الصورة
إلغاء المساعدة الطبية الحكومية للمهاجرين تهدد الصحة العامة في فرنسا
إلغاء المساعدة الطبية الحكومية للمهاجرين تهدد الصحة العامة في فرنسا (Getty)

 

7 أضعاف التكلفة

بالاستناد إلى تقرير ستيفانيني - إيفان نجد أن تكلفة العلاج في المستشفى لحالة متدهورة تفوق بسبعة أضعاف تكلفة علاجها في عيادات الأطباء. واستناداً إلى ما ورد أعلاه، اعتبر جان كريستوف ديمون أن المساعدة الطبية الحكومية مبررة على المستويين الصحي والاقتصادي. رغم ذلك يتمسك لولييفر بتوضيح مسألة يصفها بالمحورية: "في الطب لا تحتسب الجدوى من زاوية مالية". خير مثال برأيه هي اللقاحات، "لو افترضنا أن التكلفة المتوسطة للقاح هي 20 يورو وعلى اعتبار أن عدد سكان فرنسا يبلغ 68 مليون نسمة، يعني ذلك أن تكلفة التلقيح ضد وباء واحد فقط ستتخطى المليار يورو. لماذا لا يصار إذاً إلى وقف العمل بحملات التلقيح ادخاراً للأموال؟"

ديمون ولولييفر وشابرول وبوير تحدثوا إلى "العربي الجديد" كل من زاويته، لكنهم أجمعوا على أن المطالبة بإلغاء المساعدة الطبية الحكومية هي لغايات سياسية بحتة: بداية لأن الحجج الاقتصادية والصحية جرى دحضها. ثانياً لأن الملف دائماً ما يطرح في خضم تناول الهجرة على نحو مسيس وشعبوي. في هذا السياق يتوقف لولييفر عند الحملات التي تصوب على المهاجرين في العديد من دول العالم. وعملاً بمبدأ "شهد شاهد من أهله"، يتمسك بوير بالتذكير بالهوية السياسية لباتريك ستيفانيني أحد معدي التقرير وهو أحد أعضاء حزب "الجمهوريون" أي الحزب ذاته الذي ينتمي إليه وزير الداخلية، وكان مدير حملة جاك شيراك للانتخابات الرئاسية عام 1985، واليوم يصنف في خانة "أقصى اليمين". يضيف بوير: "رغم ذلك لم يوصِ ستيفانيني بإلغاء المساعدة".

والخلاصة التي يطرحها بوير وبقية المصادر، هي الفارق الكبير بين مقاربة مسيسة لملف المهاجرين تهدد الصحة العامة وأخرى موضوعية تحافظ عليه.