استمع إلى الملخص
- السيناريو يتكون من أربعة أقسام، منها "قصة رامي والطفل الغريبة العجيبة"، التي تتناول علاقة حب بين فلسطيني وإسرائيلية، مع التركيز على الضغوط والتناقضات الاجتماعية والمالية التي تواجه الفلسطينيين.
- شخصية فيفي تمثل فتاة فلسطينية تدرس في جامعة إسرائيلية، وتبرز التحديات التي يواجهها فلسطينيو الداخل، مع تسليط الضوء على دور النساء الشابات في التغيير.
"ينعاد عليكو"، المُترجم إلى الإنكليزية بـ"عطل سعيدة"، يُستهلّ بحوار بالعبرية عن حملٍ وإجهاضٍ، بين رفض وقبول. حوار شبه هادئ، تتصاعد لهجته مرات أخرى، إلى أنْ ينقطع تماماً. شاب فلسطيني في حيفا يحكي مع إسرائيلية. علاقة حبّ بينهما يتستّران عليها. لكنّ حملَ الشابّة سيُظهر المخفيّ، وكلّ ما يُمكن أنْ تفرزه علاقة من هذا النوع.
من بدايته، يشي "عطل سعيدة" (2024) للفلسطيني إسكندر قبطي (تأليفاً وإنتاجاً وإخراجاً)، الفائز بجائزة "ألكسندر الذهبية ـ ثيو أنجلوبولس" في الدورة الـ65 (31 أكتوبر/تشرين الأول ـ 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2024) لـ"مهرجان سالونيك السينمائي الدولي"، بأسلوب خاص في السرد، وسيناريو مُشوّق، وأداء تلقائي لوجوه جديدة غير محترفة، وأجواء غير مألوفة لمُشاهد عربي. حوارات بالعبرية مُتكرّرة، ربما تفاجئ في فيلمٍ فلسطيني، لكنّ الأسلوب الإخراجي الذكيّ آسرٌ في قلب مفاهيم وتوضيح أفعال من دون ضجيج ولا مباشرة، وإبراز تدريجيّ مخلص لصورة الآخر (الإسرائيلي) المعهودة. لا يُلوّح بالقبضات قائلاً "انظروا ما يضمرون وما يفعلون"، بل يظهر الحياة كما تجري يومياً لفلسطينيين يجاورون إسرائيليين ويحملون هويتهم، في تعايش سيتبيّن لاحقاً أنّ مسافة شاسعة تحول دونه. لا حوار صريحاً عن عنفهم وعنصريتهم، ورفضهم الكامن والظاهر للآخر، بل سردٌ يؤكّد ذلك برويّة وحكمة.
بُني السيناريو على قصّتين رئيسيتين لعائلتين فلسطينية وإسرائيلية، مرويّتين في أربعة أقسام متداخلة ومترابطة، لتعريفٍ أفضل بالشخصيات، ولكشفٍ تدريجيّ لغموض أحداثه. مع عناوين مبتكرة، كـ"قصة رامي والطفل الغريبة العجيبة". رامي يحبّ شيري، لكنّ الحَمل شيءٌ "غلط" كان يجب ألّا يحدث. هي تُصمّم على الاحتفاظ بالجنين رغماً عنه. لكنّها جزءٌ مُهمَل من كُلّ، وهذا الكلّ عدواني وعنصري، ومستعدّ للاحتيال واستخدام أساليب إجرامية للوصول إلى هدفه: منع ولادة جنين من أب فلسطيني. تتضح معالم ميري، شقيقة شيري، ودورها شيئاً فشيئاً، بعد أنْ بدت حنونة ظاهرياً في عملها مع الأطفال المرضى، وحريصة على الوقوف مع أختها في محنتها، وابنتها مُصابة باكتئاب لرفضها الالتحاق بالخدمة العسكرية. شخصية إنسان عادي في المجتمع الإسرائيلي، يضمر عنفاً جاهزاً، للظهور ضدّ أيّ كان (الأخت والابنة)، بمجرّد حدوث ما يتعارض واعتقاداته.
لكنّ الفيلم، المعني برسم صورة تُعبّر عن واقع معاش، لا يصنف شخصياته ببساطة في محورين، فتكون العائلة الفلسطينية نموذجية، بل يمنح مستويات عدّة لكلّ شخصية، مع الانتباه إلى الضغوط المضاعفة على الفلسطينيين، وهم هنا من الطبقة الوسطى المرفّهة. في علاقاتٍ يسودها عدم وضوح يصل إلى حدّ الكذب، تحصل الكارثة، المالية والاجتماعية. مع أب يخفي طويلاً وضعه المالي المنهار، وأمّ متحكّمة ومتعنّتة وشديدة التمسك بالمظاهر، وابن (رامي) وابنة (فيفي) خرجا عن السيطرة بسلوكهما الانفتاحيّ لكن المَخفي.
كي لا يسرد قصص شخصياته بأسلوب تقريري تقليدي، مع حبكة تصاعدية تسير على خطّ مستقيم متسلسل زمنياً، اختار قبطي السير في خطوط عدّة، واعتمد تقطيعاً تتشابك فيه أزمنة وأمكنة وشخصيات، وتداخلاً بين بدايات قصة شخصية ونهاياتها، ما منح فيلمه (123 دقيقة) حيوية وإيقاعاً، وأخرج المُشاهَدة من استقرار سرديّ. ترك قبطي للممثلين فسحة ارتجال في حواراتهم، فظهر شيء من تكرار، وأحياناً ارتباك. لكنّ هذا لم يؤثّر سلبياً، بسبب حضورهم القوي، ودراسة جيدة للشخصيات بيّنت حيرتها ومتاهتها، وأحياناً غموضها ولامبالاتها وتناقضاتها العميقة. وإذا كانت قصص الأسرة العربية وعلاقتها مع الانفتاح والمظاهر قديمة ومتداولة، فإنّ معالجتها هنا مبتكرة ومؤثّرة مع شخصيات غنية متعدّدة المستويات، ولا سيما فيفي.
بدا تطوّر شخصية فيفي (فداء) الأهمّ والأجَدّ، لما جسّدته من وضع اجتماعي لفتاةٍ من أسرة فلسطينية مُحافظة، تدرس في جامعة إسرائيلية، وتخرج مع شاب إسرائيلي (قبل أن تحبّ فلسطينياً). تعيش تزاوجاً هوياتياً بأسلوب مُلتبس. يتبدّى ذلك في طريقة حياتها المتناقضة اجتماعياً مع أسرتها، وفي خضوعها يومياً للدعاية الإسرائيلية.
في مشهد قوي بدلالته، تظهر فيفي في صفّ أطفال في مدرسة إسرائيلية، لإجراء دراسة. تبدو كأنّها لا تعبأ بما تسمع وترى من تعليم الصغار تقديس الجيش والحرب والعدوان، استعداداً للاحتفال بيوم الذكرى (لمن قضى في الحروب). تتنقل الكاميرا بينها وبين الصغار وهم يرسمون بشيءٍ من التقديس صُور جنود، وبطاقات معايدة، وتمنيات "عُدْ سريعاً إلى البيت" و"لا تمت"، ويُلقَّنون دروساً عن ضرورة التوحّد "حتى لا يقضوا (العرب) علينا جميعنا"، ويتعلّمون التاريخ على طريقتهم. من دون أيّ ردّ فعل، تتابع عملها، وتنفّذ طلبات المعلّمة لمساعدة الصغار.
ليس أبلغ من هذه الصورة للتعبير عن وضع مُعقّد وموجع يعيشه فلسطينيو الداخل، الذين بقوا في أرضهم، وعن عسكرة المجتمع الإسرائيلي منذ الصغر. لكنْ، مع قوّة تأثير المشهد، بدا موقف فيفي مُلتبساً. أهذا تعبيرٌ عن جيل جديد من الفلسطينيين، لم تعد نظرته كنظرة الآباء والأجداد؟ هذا أثاره "لدّ" (2024)، الوثائقي الفلسطيني لرامي يونس وسارة إيما فريدلاند أيضاً. كانت فيفي تتحرّك بين الصغار بابتسامة يصعب تفسيرها، كما كانت ساخرة بين عدم اكتراث، أو اعتياد ما تسمع من عنصرية وعدوانية وأكاذيب.
ليس "ينعاد عليكو" فيلماً اجتماعياً عن عائلتين فقط. مشاهد كثيرة تُظهر تغلغلاً عميقاً في نفسيات إسرائيليين وعدوانيتهم وإجرامهم، من دون إظهار الحروب. إنّه فيلمٌ مهمّ عن مشاق التزاوج الهوياتي لدى عرب الداخل.
في النهاية، حملت نساء شابات الأملَ. مع الإسرائيلية التي ترفض التجنيد، ولا يُحرّك رفضها في أمّها غير الاستهجان وإصدار أمر لا يُردّ للالتحاق بالجيش مهما كانت النتائج النفسية كارثيّة عليها. ومع فداء، التي تستعيد نفسها، وتتعلّم من تجربتها المرّة. إنّها المرأة حاملة التغيير أمام عنف الدولة العسكرية وقمع المجتمع، الآتي أيضاً من نساء، خاصة الأمهات منهنّ.