صحافيو غزة يعودون إلى بيوت مدمرة: ليست جدراناً فقط

11 فبراير 2025
المصور علي جاد الله يبحث عن جثمان شقيقته بين أنقاض مبنى لعائلته (داود أبو الكاس/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يواجه الصحافيون الفلسطينيون العائدون إلى غزة تحديات كبيرة تشمل الجوانب المعيشية والمهنية والأمنية، مع تدمير البنية التحتية الإعلامية وانقطاع الكهرباء والإنترنت ونقص المعدات، مما يعوق توثيق الأحداث بفعالية.

- العودة إلى غزة كانت صادمة بسبب الدمار الواسع، حيث تضررت 262 مؤسسة إعلامية وبلغت الخسائر 600 مليون دولار، مما زاد من تعقيد حياة الصحافيين مثل صالح الناطور وأيمن أبو شنب.

- الصحافيات مثل كاري وسالي ثابت عانين من تدمير منازلهن، مع انعدام مقومات الحياة الأساسية، مما يتطلب صموداً وإبداعاً للتغلب على التحديات الشخصية والعملية.

وجد الصحافيون الفلسطينيون العائدون من النزوح إلى محافظتي غزة وشمال غزة أنفسهم وسط تحديات جمة تعوّق عملهم وتعرض حياتهم للخطر، طاولت الجوانب المعيشية والمهنية والأمنية والاقتصادية والنفسية، ما يجعل ممارسة الصحافة في غزة مهمة شاقة تتطلب صموداً وإبداعاً للتغلب على العقبات التي أضحت أكثر من ذي قبل مع استمرار سريان وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 19 يناير/كانون الثاني الماضي.

تدمير الاحتلال الإسرائيلي للبنية التحتية الإعلامية وانقطاع الكهرباء والإنترنت ونقص المعدات الإعلامية (الكاميرات وأجهزة البث والحواسيب وأدوات التسجيل)، تعوق قدرة الصحافيين في غزة على توثيق الأحداث بفعالية، إلى جانب تواصل التهديدات الأمنية والمخاطر الميدانية التي تزيد الضغوط النفسية، في ظل غياب الدعم النفسي المخصص لممارسي المهنة الذين عايشوا الإبادة الجماعية والنزوح.

وإلى جانب ذلك، فإنّ الجانب الشخصي بات مسيطراً على الصحافيين الذين عادوا إلى غزة بعد 15 شهراً من التغطية في المحافظتين الوسطى والجنوبية. وارتسمت علامات الدهشة والصدمة على ملامح مراسل التلفزيون العربي صالح الناطور خلال طريق عودته إلى مدينة غزة، بعد نزوح قسري في المناطق الوسطى والجنوبية من القطاع، جراء مشاهد الدمار الواسع التي عاينها منذ دخوله المشارف الجنوبية للمدينة والتي تحولت بأكملها إلى أثر بعد عين. الصدمة نفسها أصابت كل الصحافيين العائدين من رحلة النزوح القاسية التي فرضتها قوات الاحتلال الإسرائيلي عليهم وعلى عموم أهالي محافظتي غزة والشمال منذ اليوم الأول للعدوان، بعد تدمير مقار عملهم (تضررت 262 مؤسسة إعلامية، منها 182 مؤسسة هدمت كلياً ضمت كافة الفضائيات والإذاعات وشركات الإنتاج الإعلامي، وقد بلغت الخسائر 600 مليون دولار، وفقاً للمكتب الإعلامي الحكومي)، إلى جانب استهدافهم مباشرة وقتل 205 من العاملين في المجال الإعلامي.

وكما كان النزوح صعباً وقاسياً جراء التنقل المتكرر وحالة عدم الاستقرار لمختلف الصحافيين، سواء على الصعيد الشخصي والعائلي أو المهني، فإن العودة إلى شمال غزة رافقتها أصناف جديدة من الألم والمعاناة بفعل التدمير الواسع الذي طاول بيوتهم وبيوت عائلاتهم بكل محتوياتها ومناطقهم السكنية. منذ الأيام الأولى للعدوان، واجه الصحافيون مختلف أشكال المعاناة، بدءاً بخسارة مقار عملهم ومعداتهم وأجهزتهم التي تعينهم على إتمام التغطية الميدانية بسلاسة، ونزوحهم قسراً نحو مناطق مختلفة تفتقر إلى أدنى المقومات الإنسانية والمعيشية والمهنية، والعمل بعيداً عن الأسرة تحت ضغط وخوف وقلق شديدين، وصولاً إلى الانقطاع التام في الكهرباء والإنترنت وعدم القدرة على الحركة بسلاسة جراء شح الوقود وغلاء ثمنه. وعلى الرغم من انتظار الصحافيين كغيرهم من الفلسطينيين للحظة العودة إلى المناطق الشمالية من القطاع، فإنها شكلت لهم صدمة حقيقية بفعل مشاهد الدمار الواسعة، والتي فاقت كل التصورات، حيث سويت البيوت بالأرض، فيما انقطعت الكهرباء بشكل تام، كذلك شبكات الإنترنت والمياه، وقد تحولت مدينتهم التي لطالما انتظروا لحظة العودة إليها إلى ركام وخراب.

ويقول صالح الناطور، لـ"العربي الجديد"، إنه لم يتمكن من العودة بعد الانسحاب الإسرائيلي من محور نتساريم وفق بنود اتفاق وقف إطلاق النار، إذ واصل تغطيته لمشاهد عودة الفلسطينيين ولهفة رجوعهم إلى ديارهم بعد شهور طويلة من البعد والحرمان، وقد استطاع العودة في اليوم الثامن لفتح الحاجز. ويصف الناطور رحلة العودة قائلاً: "عدنا كغيرنا من الفلسطينيين مشياً على الأقدام عبر شارع البحر (الرشيد) من تبة النويري في النصيرات حتى مفترق النابلسي، غربي مدينة غرة، لنفاجأ بكمية الركام المتجاور والذي حال بيننا وبين معرفة المناطق والمفترقات والمعالم التي كنا نحفظها، إلى أن وصلنا لمنطقة الرمال التي تعرضت لتدمير كامل منذ الأيام الأولى للعدوان (...) كانت مشاهد قاسية ومرعبة وتقضي على أي شعور بالفرحة والأمل"، ويبيّن أنه وجد بيته وقد تحول إلى كومة من الخراب بفعل الانفجارات الشديدة التي هزت المنطقة، ويقول: "عند رؤية البيت والركام والغبار أدركت السبب وراء عودة الناس مهرولين ومسرعين إلى مدينة غزة بعد السماح لهم بالعودة، ومغادرة بعضهم للمدينة بعد عدة أيام وقد أصيبوا بالإحباط وكانت أقدامهم ثقيلة وهم يجرون ذيول الخيبة".

إعلام وحريات
التحديثات الحية

أما الصحافي أيمن أبو شنب، فيشير إلى أنّ فرحة العودة تضاءلت بفعل مشاهد الدمار الواسعة والتعقيدات التي رافقت الفلسطينيين خلال رجوعهم إلى المناطق الشمالية، حيث لم يتمكن من العودة مع شقيقه إلى منزله المتضرر بسبب عدم السماح بحركة المركبات في كلا الاتجاهين قبل اليوم الـ22 من دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ. ويلفت أبو شنب، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى أنه اضطر للانتظار برفقة والدته وأسرته حتى يُسمح بعودة العربة لنقل باقي أمتعتهم، ويبين أن تلك العقبات والمعيقات تزيد تعقيد حياة الفلسطينيين المعقدة أصلاً بفعل التداعيات الكارثية للعدوان الإسرائيلي على مدار خمسة عشر شهراً، كما أنها تعدم فرحة الأهالي بالعودة إلى مناطقهم السكنية التي حرموا منها قسراً. يتذكر أبو شنب المعاناة التي رافقت الصحافيين الفلسطينيين منذ الأيام الأولى لحرب الإبادة، سواء عبر الاستهداف المباشر، أو استهداف مقار عملهم بهدف ثنيهم عن أداء العمل ومواصلة نقل الرسالة، أو النزوح القسري والمتكرر نحو مناطق مختلفة، الأمر الذي خلق حالة من الإرباك والصعوبة في المواءمة بين العمل والاحتياجات الأسرية، وصولاً إلى تعقيدات العودة إلى البيوت والمناطق السكنية المدمرة وغير الصالحة للحياة.

ولم يختلف واقع الصحافية الفلسطينية كاري ثابت كثيراً عن زملائها، فقد صدمت بحرق بيتها بشكل كامل وتدمير وتخريب كل محتوياته، الأمر الذي أصابها بإحباط شديد أفقدها فرحة العودة التي لطالما انتظرتها على أحر من الجمر، والتي كانت تشاركها مع أصدقائها على مواقع التواصل الاجتماعي كلما اقترب موعد العودة. وتتحدث ثابت لـ"العربي الجديد"، عما تصفه بـ"سذاجة" المواساة السائدة في قطاع غزة، والتي يقول أصحابها "المهم أن السقف والأعمدة واقفة"، وترى أن "البيوت ليست جدراناً مهترئة ومائلة فقط بعدما أكلتها النيران، وإنما ذكريات وتفاصيل وهدايا وديكورات وفراش وأغطية وعفش ضاع في غمضة عين (...) البيت تفاصيل كثيرة خسرناها كلنا"، وتوضح أن الخراب الذي حل بمنزلها توج رحلة نزوح شاقة، تنقلت فيها بين مختلف مناطق المحافظات الوسطى والجنوبية، وبعد شهور طويلة من العمل وسط انعدام أبسط الإمكانيات. وتضيف: "كنا نواسي أنفسنا بالقول إن التعب سيزول بمجرد وصولنا إلى بيوتنا، لكن ذلك لم يحصل، فقد وجدناها خراباً ودماراً زاد من تعبنا، وهذا هو التعب والحسرة الحقيقية".

أما شقيقتها الصحافية سالي ثابت، التي واصلت تغطيتها الميدانية من مناطق النزوح، فقد أصيبت الشقة التي كانت تستأجرها قبل الحرب بعدة قذائف تسببت في دمار جزئي وتحطيم في الأثاث، فيما فوجئت بانعدام مقومات الحياة وانقطاع الكهرباء والإنترنت والماء بشكل تام، الأمر الذي زاد تعقيد تفاصيل الحياة اليومية. وتلفت ثابت، في حديث لـ"العربي الجديد"، إلى تفاقم الأزمات التي تواجه الصحافيين الفلسطينيين منذ بداية المقتلة الإسرائيلية حتى اللحظة، والتي مروا خلالها بمختلف أشكال المعاناة والحرمان، مبينة أن التحديات لن تتوقف مع توقف الحرب، إذ ستظهر العديد من الأزمات على الصعيدين الشخصي والعملي، سواء بإيجاد المسكن الملائم، أو بتوفير المعدات والأجهزة اللازمة لمواصلة التغطية رغم قساوة وقهر الظروف.

المساهمون