سفينة تيتانيك والهوس بالحطام

09 مايو 2025
معرض لحطام سفينة تيتانيك في بلفاست، مارس 2012 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تستمر حكايات تيتانيك في الانتشار بعد أكثر من 100 عام على غرقها، مع اهتمام متجدد بسبب غرق غواصة استكشافية ومسح رقمي للسفينة في 2023.
- تحول الحطام إلى مادة للتسلية المبتذلة، مع دخول الشركات الخاصة مثل سبايس إكس في الاكتشافات العلمية، مما يعكس تحول التجارب العلمية إلى نكات بسبب سلطة رأس المال.
- المشاريع الضخمة التي كانت تخدم الإنسانية أصبحت تخدم مصالح الأثرياء، مثل استعمار المريخ، مما يعكس فقدانها لقدرتها على إثارة الرهبة والسحر.

كل حين وآخر، تعود سفينة تيتانيك إلى نشرات الأخبار، وتنتشر الحكايات عنها على الرغم من مرور أكثر من 100 عام على غرقها. آخر هذه الأخبار كانت صادمة، فعام 2023، غرقت الغواصة الاستكشافية/السياحية المصممة لزيارة حطام السفينة في قاع المحيط الأطلسي. واليوم، تعود إلى الواجهة مع أخبار عن مسح رقمي لكل أنحاء السفينة، يُمكّننا من مشاهدتها بصورة ثلاثية الأبعاد. المسح أُنجز كجزء من فيلم وثائقي بعنوان "تيتانيك: البعث الرقميّ" (Titanic: The Digital Resurrection). الاسم اللافت يعكس حالة العلوم الآن؛ إذ سبق أن أُعيدت كلاب عملاقة من الانقراض، وطُرحت فرضيات عن وجود مدينة تحت أهرامات الجيزة لا بد من "كشفها". كل هذا البحث في الحطام والآثار وإعادة "بعثها" يبدو نوعاً من الهوس، لا يقتصر على العلم، بل يرتبط بالثقافة الشعبية عبر وثائقيات ومقالات وبودكاستات، ليُحوَّل الحطام وآثاره إلى مادة للتسلية.

الغريب، أنه في حالة تيتانيك كنا أمام تحدٍّ بشريّ لصناعة وسيلة نقل عملاقة لا تُهاب. لكنها غرقت وتحولت إلى أسطورة. الأمر نفسه حدث مع مكوك تشالنجر الذي انفجر عام 1986 بعد الإقلاع بدقيقة تقريباً. لكن اليوم، بعدما تبنّت الشركات الخاصة المعولمة الاكتشافات العلمية "العملاقة"، تحوّل الحطام إلى شكل من أشكال التسلية المبتذلة، أشبه بفيديوهات "القفشات"، التي تتجاهل الملايين المهدورة لبناء الصواريخ في سبيل الضحك وجمع المشاهدات على "يوتيوب". وكأن التجربة العلمية لم تعد على القدر المألوف من الحذر والجديّة، والسبب: توفر المال.

المادة الأدسم لفيديوهات الانفجارات "القفشية" هي صواريخ إيلون ماسك، التي تطلقها شركة سبايس إكس. ففي هذا العام، انفجر صاروخان يشكلان أساس خطة استعمار المريخ، وقبلها عشرات الصواريخ التي دفع ثمنها ماسك، وانفجرت وتحولت إلى فيديوهات مجمعة. لكن، ما مصير هذا الحطام؟ على الأقل، حطام الصاروخين الأخيرين؟ الإجابة: سقط فوق بعض الجزر الكاريبية، لكن من دون إصابات أو أضرار. سلطة رأس المال حين تتّحد مع العلم، تتحول نتائجها إلى نكات أو مفارقات. الفياغرا مثلًا، "اكتُشف" خطأً، وتركَنا أمام مفارقة مضحكة: تجربة دواء لعلاج الذبحة الصدرية انتهت باكتشاف منشط جنسي. وفي حالة الصواريخ، النتيجة هي فيديوهات مضحكة، سخر منها ماسك نفسه مرة.

الاختلاف أن حطام تشالنجر جُمِع من البحر خلال ثلاثة أشهر، وبعضه وُجد عام 2022. فالمركبة كانت من صناعة ناسا، وليس شركة خاصة، على عكس تيتانيك. لكن هذه المشاريع الضخمة كانت تُقدَّم بوصفها خدمة للإنسانية، تعود بالنفع على الجميع، سواء في اكتشاف الفضاء أو نقل أعداد كبيرة من الركاب. أما اليوم، فالمشاريع الكبرى وحطامها تخدم شركة واحدة، أو حلم شخص واحد فقط: استعمار المريخ، أو اكتشاف الفضاء. الحطام لم يعد مهمّاً، لأن الجهود لا تقوم على الحرص وحفظ الموارد، بل على إنفاقها بكثافة وإغراق الفضاء بالصواريخ، والبحار باليخوت الخاصة. كل هذا المال من أجل متعة شخص واحد، وحلم لا يعود علينا نحن -المتفرجين- بأي نفع، مثل حالة جيف بيزوس، الذي أرسل خطيبته إلى "الفضاء" على حسابه الشخصي، في خطوة أثارت كثيراً من الانتقادات والسخرية.

بالعودة إلى الحطام، يمكن القول إننا لسنا أمام تجارب علمية وصناعية عملاقة الآن، بل أمام مشاريع خاصة، فانتازمات للأثرياء، ورحلات سياحية ترويجية استهلاكية، أكثر منها ذات قيمة علمية أو إنسانية. أما الحطام، فإما يهبط مطراً على الغافلين، أو يتحول إلى فيديوهات ترفيهية. وكأن المشاريع العملاقة فقدت قدرتها على إثارة الرهبة فينا، وكأن السحر نُزع عنها، فلم يعد انفجار صاروخ حدثاً عالمياً مثيراً، بل مجرد حادث يومي لا قيمة له، بضع ساعات، ويختفي من دورة الأخبار، أما حطام المشاريع التي أسرت مخيلتنا، كتيتانيك، فتحول إلى نوع من الفيتيش، لاكتشافه وفهمه، مع أن سبب الحادث واضح، ويلخّص بجملة واحدة: "سفينة اصطدمت بجبل جليدي، فغرقت، ومات كثيرون ممن كانوا على متنها".

المساهمون