استوديو غيبلي: ميازاكي يرسم الغيوم وتاكاهاتا يحدّق في الألم

15 ابريل 2025
عرف الجمهور العربي ميازاكي من خلال "عدنان ولينا" (جان بيير كالتوت / فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- انتشرت صور مولّدة بالذكاء الاصطناعي بنمط Studio Ghibli، مما أثار جدلاً حول حقوق الفنانين والإساءة للفن التقليدي، وعلّقت مخرجة الأنمي ميغومي إيشيتاني بأن هذا يشوّه إرث غيبلي.
- استوديو غيبلي، الذي أسسه هاياو ميازاكي وإيساو تاكاهاتا وتوشيو سوزوكي، يتميز بوعيه البيئي والاجتماعي، حيث يعكس أفلامه مثل "ناواسيكا من وادي الرياح" فلسفته في الدفاع عن الكرامة الإنسانية ومقاومة السلطوية.
- يتميز غيبلي بتنوع أساليبه الفنية، حيث يجمع بين الخيال والواقعية، ويرفض التعديلات التجارية، مركزاً على العمل الجماعي كفعل تعاوني حر.

خلال شهر، اجتاح مواقع التواصل الاجتماعي عدد هائل من الصور المولّدة بالذكاء الاصطناعي بنمط Studio Ghibli من خلال عدّة تطبيقات مدفوعة أو مجانية، لتكون ترند استُخدم حتى في شركات التسويق. أثار الترند سجالات حول حقوق الفنانين، وعن الإساءة للفن الذي يحتاج إلى سنوات من العمل، ويستهان به بهذه الطريقة. علّقت مخرجة الأنمي، ميغومي إيشيتاني، على الأمر: "لقد شوّهتم إرث غيبلي. لن أسامحكم أبداً".
هناك كثيرون عرفوا "غيبلي" من خلال هذا الترند، فالاستوديو يتخصص بأنماط رسم معينة، مثل "عدنان ولينا"، أول مسلسل أنمي من إخراج هاياو ميازاكي عرفه العالم العربي. لكنّ "غيبلي" أكثر من ذلك، ويمكن اعتباره الوجه النقيض لـ"ديزني".
أسس هاياو ميازاكي، وإيساو تاكاهاتا، وتوشيو سوزوكي استوديو غيبلي عام 1985، بعد النجاح الكبير لفيلم Nausicaä of the Valley of the Wind الذي صدر عام 1984، وعمل عليه ميازاكي وتاكاهاتا، وأنتجه سوزوكي. هذا الفيلم يؤسس الرؤية المختلفة التي قدمها الثلاثي لعالم الرسوم المتحركة؛ فالبيئة بطل أساسي، والشخصيات النسائية فعّالة ومختلفة، وأيضاً لا يهادن "غيبلي" في عرض العالم وكأنه على وشك الانهيار، ولا يجمّله. في مهرجان نيويورك السينمائي عام 2005، قال ميازاكي: "أعتقد أن الأطفال يدركون، بديهياً، أن العالم الذي ولدوا فيه ليس مباركاً". في فيلم "ناواسيكا"، كان العالم شبه مدمر بالتلوث. رغم ذلك، هناك أناس يعيشون ويحاولون، ويقدمون بطولات ليست خارقة بالكامل، ولا تكفي لإنقاذ العالم، لكنها الحياة كما يجب أن تكون، والنضال كما يجب أن يكون.


"ناواسيكا من وادي الرياح" لم يكن مجرد فيلم افتتاحي، بل بيان تأسيسي لفلسفة "غيبلي". بطلة الفيلم فتاة شابة ومحاربة، ومتصوفة بيئية، تقف بين حضارات بشرية ممزقة، وغابة سامة تحوي مخلوقات ضخمة. تدرك ناواسيكا أن الغابة ليست شريرة، بل هي تمثّل محاولة الأرض التعافي من تدمير الإنسان.

غيبلي ونضال عمّالي

هذا الوعي البيئي، أصبح حجر الزاوية في أعمال "غيبلي" اللاحقة. الطبيعة لم تعد خلفية، بل كيان حيّ له إرادة، والبطلات لم يكنّ رموزاً سطحية، بل شخصيات ناضجة، تتعلم وتفشل وتواجه وتسأل وتقرر. لم تأت هذه الأفكار مع الفيلم، ففريق "غيبلي" المؤسس خاض نضالاً عمالياً ضد إحدى أكبر استوديوهات الأنمي. ميازاكي وتاكاهاتا بدآ ثورتهما على عالم الرسوم المتحركة، في ستينيات القرن الماضي، عندما كانا يعملان معاً في "توي أنيميشن"، الاستوديو الذي قدّم "غريندايزر" وأشهر أعمال أنمي ما بعد الحرب.
في عام 1963، شارك ميازاكي في الإضراب العمالي لشركة توي أنيميشن. بدأت الأزمة بين الفنانين والاستوديو عندما وظّفت الإدارة رسامين بنظام الساعة من دون منحهم المكافآت أو الحقوق التي يتمتع بها الموظفون الدائمون، ما أدى إلى توتر بين العاملين، إضافةً إلى ساعات العمل الطويلة من دون مقابل مادي مناسب، فكان يجبر بعض الموظفين، ممن لا يملكون عائلة، إلى البقاء حتى الصباح. في الخامس من ديسمبر/كانون الأول من عام 1961، انضم هاياو ميازاكي إلى توي نيميشن وعُرف بنشاطه في النقابة، فأصبح أمينها العام في سنة 1964، بينما كان إيساو تاكاهاتا نائب رئيس النقابة. ساهما معاً في حشد العاملين، ودافعا عن حقوقهم، مطالبين بتحسين بيئة العمل ومنح الفنانين حرية إبداعية أكبر، وسط مناخ ثقافي أوسع، كان يُرفض فيه الخضوع التام لرأس المال، ويطالَب بفن أكثر استقلالية وإنسانية. هذا التمرد النقابي لم يكن مجرد صراع صناعي، بل كان تعبيراً عن موقف أجيال شابة تجاه التحديث المفرط والهيمنة المؤسساتية على الثقافة. هذا النضال سيزرع لاحقاً البذور الأخلاقية لـ"غيبلي": الدفاع عن الكرامة الإنسانية، ومقاومة السلطوية، واحترام الإبداع باعتباره فعلاً أخلاقياً، وليس ترفيهياً فحسب.

الغيوم والحياة اليومية

لم يكن يتمثّل "غيبلي" بمخرج واحد فحسب، بل بشراكة عميقة، تلتقي القيمَ نفسها، وتختلف في الأسلوب بالكامل. يُحتفى بهاياو ميازاكي غالباً بوصفه وجه الاستوديو، لكن إيساو تاكاهاتا هو الروح الأخرى في المعادلة. وإذا كان ميازاكي يرسم الغيوم والأرواح والغابات، فإن تاكاهاتا هو من وضع قدم "غيبلي" على الأرض: نحو الحروب، والذاكرة، والحياة اليومية.
في عام 1988، وبينما كان ميازاكي يُخرج "جاري توتورو"، أخرج تاكاهاتا في الوقت نفسه "قبر اليراعات"، في واحدة من أكثر المفارقات الدرامية في تاريخ الأنمي: فيلم عن الطفولة بوصفها عزاءً، مقابل فيلم عن الطفولة بوصفها فقداً نهائياً. كلا الفيلمين يتحدث عن الأطفال، لكن من عالمين متقابلين.
تتباين أفلام الرجلين أيضاً من ناحية الأسلوب الفني: يستخدم ميازاكي عوالم خيالية وبطلات شجاعات وآلات طيران ترمز إلى الحرية، ويصنع من الجمال والدهشة لغة مقاومة. أما تاكاهاتا، فيميل إلى الواقعية، والحياة اليومية والأسى والفرح العادي داخلها، وتصوير الصمت والألم والحنين، كما في Only Yesterday وThe Tale of the Princess Kaguya.
وعلى الرغم من هذا الاختلاف، يشتركان في الهمّ الجوهري نفسه: أن يُعبّر الفن عن الإنسان وليس السوق.
وفي موقف شهير لرفض عالم السوق: في أواخر التسعينيات، عندما حصلت شركة ميراماكس برئاسة هارفي وينستين على حقوق توزيع النسخة الإنكليزية من فيلم "الأميرة مونونوكي" لاستوديو غيبلي، طلب وينستين تقليص مدة الفيلم من 135 دقيقة إلى 90 دقيقة لجعله أكثر جاذبية للسوق الأميركية. رفض هاياو ميازاكي، مخرج الفيلم، هذا الطلب بشدة. لتأكيد موقف الاستوديو الرافض لأي تعديلات، أرسل المنتج توشيو سوزوكي إلى وينستين سيف ساموراي حقيقياً مع رسالة مرفقة تقول: "لا تقطيعات". التصرف كان تأكيد سياسة "غيبلي" الصارمة بعدم السماح بأي تعديلات على أعمالهم، خصوصاً بعد التجربة السلبية مع التعديلات الكبيرة التي أُجريت على فيلم "ناواسيكا" في إصداره الأميركي السابق.


أفلام "غيبلي" ليست مجرد حبكة يمكن قصقصتها واختصارها، فكل تفصيلة، هي جزء من الفلسفة الخاصة بالفيلم.

ما يمكن أن يكون

ترى الباحثة الأميركية، سوزان نابيير، في كتابها "الأنمي من أكيرا إلى قلعة هاول المتحركة" أن أفلام ميازاكي تدور حول ثنائية "ما فقدناه" و"ما يمكن أن يكون". في عوالمه، تستعيد الطبيعة قوتها، ويتحول الطيران إلى استعارة للتحرّر. وتضيف أن بطلاته الشابات لا يقدن القصص فحسب، بل يُمثّلن طريقة مختلفة لرؤية العالم، لأنهن مستقلات، وجريئات، وذوات أخلاق داخلية عميقة، ولسن مجرّد انعكاسات للأنوثة النمطية.
تلفت نابيير إلى مشهدٍ محوريّ من "ناواسيكا": حين تقتل البطلة أعداءها بسيفها لحماية من تحب لم تحتفل بالنصر، بل تبكي. هنا لا يكون العنف انتصاراً، بل أزمة أخلاقية. في عالم ميازاكي، لا يوجد شر مطلق، بل مواقف، وتحولات، وخيارات إنسانية بالغة التعقيد. في "الأميرة مونونوكي" هناك صراعات مشابهة، وكذلك في الأفلام ذات القصة الأبسط مثل توتورو، فإن المعارك اليومية، والحياة الطبيعية، والموت، أمور حاضرة، طبيعية، ولا موقف أبيض أو أسود منها.
لـ"غيبلي"، أيضاً، أساليب فنية متنوعة، يجمعها شيء واحد فقط: العمل اليدوي إطاراً بإطار. رغم شهرة غيبلي أسلوباً رسومياً معيناً أو "براند" بصرياً، ما يُميزه ليس الشكل، بل الفكر، ففي كل فيلم لـ"غيبلي"، يعمل الاستوديو وكأن كل فيلم هو العالم نفسه. في زمن الإنتاج المتسارع، والمواسم المتكررة، ظل الاستوديو، حتى وقت قريب، يُنتج فيلماً واحداً في كل مرة، فلا يسير وفق دورة تسويقية، بل وفق نضج الفكرة ورؤية المخرج. ولعل هذا من الإرث غير المُعلن لميوله النقابية المبكرة: أن الإبداع لا يُمكن أن يُدار كما تُدار الآلات، بل يجب أن يُعطى وقته، ويُحمى من تدخل السوق.
هذا المنهج يفسر أيضاً التنوّع الكبير في الأساليب البصرية داخل "غيبلي" رغم ما يبدو من وحدة شكلية. يرسم ميازاكي تفاصيل طبيعية غنية، ويصنع عوالم مليئة بالرياح والغابات والسماء، وقلاعاً متحركة وباصات تطير، بينما تاكاهاتا، أكثر تحرراً لونياً ولا يخشى التجريب: في "الأميرة كاغويا" استخدم عدة أساليب لونية، بدأها بضربات مائية لتتحول شيئاً فشيئاً إلى رسوم أنيميشن معتادة، لينقلنا من الأسطورة المتمثلة بحكاية كاغويا الشعبية، إلى قصة الفيلم وما بعد الحكاية. في "قبر اليراعات" تقشف تاكاهاتا بصرياً، فهو يرفض فكرة ألا يكون صادقاً في فيلم عن الحرب ومأساة اليابان. وبين هذين الاثنين، كانت روح الاستوديو تتكوّن: لا أسلوب واحداً، بل التزام واحد تجاه المعنى.

مدينة الحديد

في أفلام "غيبلي"، وتحديداً التي أنجزها ميازاكي، تبرز مشاهد العمل الجماعي، وهي مشاهد استعان بها معارضون لترند صور "غيبلي"، توضح مدى العمل الشاق لفريق الاستوديو. هذه المشاهد بحد ذاتها لم تكن جمالية فحسب؛ إذ يرى الناقد أوتسوكا إيجي في كتابه عن الجذور الأيديولوجية للأنمي، أن "غيبلي"، وميازاكي على وجه الخصوص، يستعيد نوعاً خاصاً من الجماليات يُطلق عليه "جماليات العمل الجماعي" (Aesthetics of Collective Labor). هذا المفهوم، كما يشرحه أوتسوكا، يعود إلى المونتاج السينمائي السوفييتي، خاصة في أفلام سيرغي آيزنشتاين؛ فلا يكون البطل فرداً خارقاً، بل الجماعة بأكملها، وهي تتحرك بتناغم، كما لو أنها كائن واحد، متماسك ومنظم.
يُطبّق أوتسوكا هذا المفهوم على فيلم دعائي عسكري ياباني من إنتاج 1945 يجمل عنوان Momotarō: Umi no Shinpei، يصوّر الجنود على شكل حيوانات كرتونية وهم يعملون معاً في حفر مدارج الطائرات وتنفيذ المهام بصرامة جماعية متقنة. رغم أن ميازاكي مناهض صريح للحرب، يرى أوتسوكا أنه "وريث جمالي" لهذا الشكل من البناء البصري الجماعي، ليس من ناحية الرسالة، بل لجهة الأسلوب. والفرق، بالطبع، أن "غيبلي" لا يمجّد الطاعة أو الانضباط العسكري، بل يعيد تأويل الجماعة بوصفها فعلاً تعاونياً حرّاً، وليست مؤسسة سلطوية.
يورد أوتسوكا مثالاً عن قلعة هاول المتحركة، فلا يخوض الأبطال معركة طاحنة طوال الوقت، بل ينظفون، ويطبخون، ويبنون بيتاً... تلك المهام التي قد تبدو تافهة، تُعرض في "غيبلي" أفعالاً بطولية. في مونونوكي، مدينة الحديد ليست مجرد استعارة للحداثة، بل مجتمع بديل تقوده النساء والمهمّشون. أما كيكي، فهي لا تخلّص أحداً لكنها تتعلم كيف تعمل، وكيف تتواصل، وكيف تنهض من فشلها. ليست النجاة في "غيبلي" نتيجة ضربات سيف، بل نتيجة تنسيق داخلي بين شخصيات تتعلّم كيف تنجز مع الآخر.
هكذا، يتحول "العمل" في سينما "غيبلي" من مشهد ثانوي إلى مكون جمالي/فلسفي مركزي بحسب أوتسوكا. إنه لحظة أخلاقية، إنسانية، وسياسية، يُعرّف فيها الأفراد من خلال مشاركتهم ليس من خلال تفوقهم. وهنا يكمن جوهر "اليوتوبيا الغيبلية": لا مجتمع مثالياً، بل إمكانية العيش معاً، رغم كل شيء.
ومع المؤسسين، فتح "غيبلي" أبوابه لأسماء شابة أبرزها Hiromasa Yonebayashi، الذي أخرج فيلم When Marnie Was There المقتبس عن رواية تحمل الاسم نفسه، وهي من الروايات التي اختارها ميازاكي من مفضّلاته.

لكن، حتى مع هذا التجدد، ظل الوعي السياسي حاضراً، أحياناً بصمت. مارني، وإن بدت قصة شخصية، تتناول الطبقية والعزلة والطفولة المحطمة داخل مجتمع حديث فقد دفء العلاقات. وفي مقابلاته، تحدث يونيبياشي عن رفضه لفكرة "البطلة القوية فقط لأنها قوية"، مؤكداً أن بطلاته لسن منتجات لتوقعات السوق، بل شخصيات تبحث عن مكانها في عالم قاسٍ.
"غيبلي" ليس أسلوب رسم، بل تجربة كاملة، مؤثرة في تاريخ الأنمي، ضد تسليع الطفولة والأنوثة والطبيعة، قدمت أفلاماً مختلفة عن السائد في "ديزني" عن البطلات السلبيات اللواتي ينتظرن قبلة الأمير، أو الأبطال الخارقين ذوي المعارك السطحية.

المساهمون