من خرّب اقتصاد لبنان؟

18 فبراير 2025
من احتجاج أمام مصرف لبنان في بيروت على تردي الأوضاع المالية، 30 مارس 2023 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بدأت الحقبة الحريرية بعد الحرب الأهلية في لبنان بهدف إعادة الإعمار وتثبيت الليرة لجذب الاستثمارات، لكن تورطت الأطراف السياسية في المحاصصة والصفقات، مما استنزف الموارد المالية.

- بعد اغتيال رفيق الحريري، سيطر حزب الله وحلفاؤه على الاقتصاد والوزارات، مما أدى إلى تعطيل العمل السياسي وتفاقم الانهيار الاقتصادي بسبب الفساد والصفقات الفاشلة.

- تفاقمت الأزمة المالية مع بدء الهندسات المالية في 2016، وهرب الزعماء أموالهم، مما كشف عمق الأزمة في 2019، وتسببت الأزمات المتواصلة في عزلة لبنان سياسياً واقتصادياً.

منذ تشكيل حكومة نواف سلام، ومع صعود اللهجة العدائية لحزب الله داخلياً، حد افتعال أزمات أمنية متواصلة، تسعى أصوات مختلفة لتبرئة الحزب وحلفائه من إفلاس لبنان وتدميره، عبر ترديد النغمة المبتورة إياها، وهي أن الحريرية السياسية هي من دمرت لبنان وأفلسته.

عملياً، بدأت الحقبة الحريرية التي تخللها الكثير من التشوهات المالية والنقدية التأسيسية، منذ انتهاء الحرب الأهلية من منطلق إعادة إعمار لبنان بعدما خربته المليشيات فيه، وضمناً حزب الله وحلفاؤه. وخلال تلك الفترة، تم إرساء المنظومة النقدية وبدء عملية تثبيت الليرة، وفرض فوائد ضخمة على الودائع ما خلق استقراراً هشاً لجذب الأموال والاستثمار.

وخلال تلك الحقبة، كان لحلفاء الحزب يد في كل النفقات والصفقات والمحاصصات التي كانت عملياً توزع أموال الناس على الزعماء والمتنفذين. ففيما كانت "سوليدر" تستولي على أملاك الناس وحقوقهم، كان مجلس الإنماء والإعمار يصرف ملايين الدولارات على مشاريع يتقاسمها قادة الأحزاب مباشرة أو عبر المنتفعين. مثلاً، بينما كان نبيل الجسر التابع لتيار المستقبل يدير المجلس، استلم منصب نائب الرئيس ياسر بري، شقيق رئيس مجلس النواب نبيه بري، وكان النائب الثاني آلان قرداحي من حصة الرئيس الأسبق إميل لحود. وتنسحب المحاصصة في مكتب المجلس وإدارته على الحزب التقدمي الاشتراكي وميشال المر وطلال إرسلان وعمر كرامي وغيرهم. وكذا الحال في كل ما له علاقة بالمال. كل مليشيات الحرب، يضاف إليها تيار المستقبل، تقاسموا أموال الناس والمساعدات الخارجية وصولاً إلى تحاصص عمليات الاستيراد والتصدير واحتكار السوق اللبنانية من أصغر سلعة إلى أكبرها. وفي حين قاد الحريري ومعه فؤاد السنيورة الدفة المالية عبر رئاسة الحكومة ووزارة المال، كان الآخرون، بدعم وتيسير من النظام السوري، يكملون المشهد بكل بشاعة ممكنة.

انتهت الحقبة في العام 2005، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومع هذا الحدث الذي هز لبنان وغير وجهه حتى اللحظة، انتقلت دفة إدارة الاقتصاد إلى الحزب وحلفائه، تسييراً وتعطيلاً، فقد ورث حليف الحزب، أي التيار الوطني الحر، الوزارات الدسمة، ودخل حزب الله شخصياً هذه المرة إلى السلطة التنفيذية ليكون مشاركاً في القرار الاقتصادي، بل مقرراً في عدد من الوزارات الأساسية ومنها: الطاقة، والعمل، والزراعة، والصناعة. وبعدما كان تقاسم أموال الناس يطبع الحقبة السابقة، أصبح تعطيل العمل السياسي، واختلاق الأزمات الأمنية المحلية، صفة إضافية طبعت الانهيار الاقتصادي اللبناني، بالتزامن مع وقف إقرار الموازنات وترك الإنفاق العام سائباً من دون أي رقابة، حتى لو كانت في السابق شكلية.

وفيما اختلاس الأموال العامة والفساد والصفقات طبعت ولاية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إلا أن وجهاً آخر للانحدار يتم إخفاؤه حين الحديث عن تفليس الاقتصاد، وهو تمويل مصرف لبنان للصفقات التي كان يرتكبها الوزراء ومن خلفهم قادة الأحزاب، خاصة عبر السلفات وسندات الخزينة التي كانت تزيد الفائدة المتربة عليها من عجز الموازنة عبر تمويلات بمخالفات قانونية ودستورية متلاحقة. وهذا الإنفاق الحزبي الذي كان يتم ضخه من دم الاقتصاد وأموال اللبنانيين امتد إلى تمويل المؤسسات العامة الخاضعة للمحاصصات الحزبية، والتي كانت تحقق عجزاً مالياً بسبب هذه السيطرة نتيجة الصفقات والمشاريع الفاشلة والفساد، وأهمها مؤسسة كهرباء لبنان. بل ويمتد التمويل إلى الصناديق التي كانت موزعة على الجهات الحزبية المسيطرة، من مجلس الجنوب إلى صندوق المهجرين وصولاً إلى الهيئة العليا للإغاثة.

ما بعد الحقبة الحريرية كانت حقبة أخرى، أكثر فساداً، وأكثر انتهاكاً لأموال الناس وحقوقها، وإن كان تيار المستقبل موجوداً خلال الحكومات التي لحقت الاغتيال، إلا أنه تحول من قائد الدفة إلى أحد ركاب السفينة التي أدت إلى الانهيار والإفلاس بعد ذلك. ومع بدء مصرف لبنان عملية الهندسات المالية في العام 2016، انتقلت الأزمة إلى مرحلة أخرى من الانهيار، وسط تهريب الزعماء والمتنفذين أموالهم من المصارف، ما كشف عمق الأزمة المالية في العام 2019 حين بدأ مسار الإفلاس ينكشف بصورة واضحة. وخلال تلك المرحلة، كان الحزب وحلفاؤه يسيّرون المنظومة المالية والنقدية، لا بل حاولوا بكل طرق التمييع رمي المسؤوليات على الناس بعد انطلاقة انتفاضة 2019. ورغم كل الوقائع المالية والنقدية، ورغم كل الفساد الذي كان يأكل الاقتصاد عاماً بعد عام، لم يتوانَ هؤلاء عن توجيه أصابع الاتهام إلى المتضررين الذين نزلوا إلى الشوارع معلنين العصيان السياسي ومطالبين بمحاسبة الفاسدين من كل الأطياف والألوان.

والمشاركة في صنع القرار وحماية منظومة الفساد ليست سوى آلية من آليات بث الخراب، إذ إن انفجار مرفأ بيروت والأزمات الأمنية المتواصلة، ووقف عمل المؤسسات والسيطرة على القضاء من جهة وتعطيل عمله من جهة أخرى، كل ذلك جعل لبنان منبوذاً سياسياً واقتصادياً ومعزولاً عن العالم بأسره، فلا استثمارات تستطيع العمل في بلد يعيش أزمة تلو الأخرى، ولا تمويل أصبح متاحاً لمنظومة صار صيت فسادها عابراً للقارات، ولا سياح يستطيعون القدوم إلى بلد مأزوم وبلا خدمات. ولم تترك المنظومة بعد العام 2005 طريقاً واحداً لدخول العملة الأجنبية أو بدء مشروع قد يؤمن الوظائف ويسيّر عجلة الاقتصاد.

واليوم يتم رمي الاتهامات المختلفة على الحكومة الجديدة ورئيس الجمهورية حديث العهد، وكالعادة تنتقل المسؤولية من المسببين إلى الضحايا أو المنادين بالتغيير أو كليهما. وبالاقتصاد، كما بالسياسة والأمن، المسؤولون معروفون، والمحاسبة آتية، والكل متورط، من رياض سلامة إلى الفاسد والحامي والمعطّل، هذا ما يقوله التاريخ، ولن يكون المستقبل استثناء.

المساهمون