استمع إلى الملخص
- يواجه المزارعون تحديات بسبب نقص الدعم الحكومي وغياب خطط تعويض فعالة، مع الحاجة إلى بروتوكولات لإعادة تأهيل الأراضي وتحسين التواصل مع وزارة الزراعة.
- أطلقت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مشروعًا لدعم الأنظمة الزراعية بميزانية 10 ملايين دولار، مع جهود محلية ودولية لتعزيز النمو الاقتصادي واستدامة المجتمعات الريفية.
أدّت الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان بالقنابل الحارقة إلى ضرر مباشر لحق بمساحة 2192 هكتاراً من الأراضي، منها 12 هكتاراً بشدّة حروق مرتفعة، و248 بشدة متوسطة، و1932 بشدة منخفضة. وبحسب المركز الوطني للبحوث، فإن المساحات الزراعية التي أصيبت بهذه الأضرار بلغت 134 هكتاراً من أشجار الزيتون، و48 هكتاراً من أشجار الحمضيات، و44 هكتاراً من أشجار الموز، بالإضافة إلى 15 هكتاراً من أشجار الفاكهة، و37 هكتاراً من الأراضي الزراعية المتفرقة، فضلاً عن حرق نحو 873 هكتاراً من الغابات الكثيفة، و530 هكتاراً من الغابات القليلة الكثافة.
وتمثّل الزراعة في لبنان جزءاً أساسياً من سلاسل الإنتاج والتوريد، وأيّ ضرر يصيبها ينعكس مباشرةً على مجمل القطاع الزراعي، ولا سيما أن الزارعة لا يمكن تعويضها سريعاً، ما يتطلب من السلطة العمل بشكل حثيث على منح المزارعين التعويضات المناسبة لإعادة إطلاق نشاطهم الزراعي وتحسين جودة الإنتاج في حقولهم. لكن لم تكن هذه الأضرار كل ما أصاب القطاع الزراعي في لبنان، إذ تعطّل النشاط الزراعي في العديد من المناطق بشكل كامل أو أصيب العديد من الأراضي الزراعية بشكل أدّى إلى إعطابها وتعطيلها عن العمل بشكل كامل، وكان القضاء الأكثر تضرّراً زراعياً هو قضاء بنت جبيل، إذ إن معظم الزراعات فيه تضرّرت بشكل كامل، بما في ذلك المحاصيل الزراعية والأشجار المثمرة والزيتون والخيم الزراعية والحمضيات.
أما قضاء حاصبيا، فقد سجّل ضررا كاملا في الكروم والحمضيات، وبلغت نسبة الضرر اللاحق بالأشجار المثمرة 64%، و35% في المساحات المزروعة بالزيتون. وفي مرجعيون، تضررت قطاعات الموز والخيم الزراعية والحمضيات والزيتون والأشجار المثمرة بشكل كلي. وتضرّرت في صور، جنوبي لبنان، الخيم الزراعية والحمضيات بشكل كامل (سواء بسبب الضرر المباشر من القنابل أو بسبب التعطّل). أما في الأقضية الأخرى، الأبعد جغرافياً عن الحدود مع فلسطين المحتلة، فقد كانت الأضرار أقلّ رغم تعرض الخيم الزراعية لضرر بنسبة 95%.
ندى، سيدة كانت تعيش في إحدى القرى الجنوبية الواقعة قرب الحدود مع فلسطين، ورثت عن والدها قطعة أرض صغيرة تمتد على تلة جميلة، مليئة بأشجار الزيتون العتيقة التي قدّمت لها مصدر رزق ثابت على مر السنين. كانت ندى تقوم بزراعة الأرض والاعتناء بها، وتجني الزيتون لتصنع منه زيتاً طبيعياً كان من أفضل أنواع الزيوت في المنطقة. تقول: "لقد كانت الأرض جزءاً من عائلتنا. الزيتون ليس مجرد مصدر دخل، بل هو تراث وروح أجدادنا"، وفق ما قالت ندى لـ"العربي الجديد".
بعد بضعة أيام بعد النزوح، تلقّت ندى مكالمة من أحد جيرانها يخبرها أن قذيفة إسرائيلية قد سقطت على أرضها. ذهب قلبها إلى هناك على الفور، وعندما عادت إلى الأرض، وجدت نفسها أمام مشهد لم تتخيله أبداً. قالت ندى لـ"العربي الجديد": "عندما عدت، لم أتعرف على أرضي، كنت أعرف كل شجرة وكل زاوية فيها، لكن الآن تحوّلت جميع الأشجار إلى أكوام سوداء من الرماد. لم أستطع إلا أن أبكي. شعرت وكأن الأرض بكت، فأشجار الزيتون التي زرعتها بيديّ، وتحملت متاعبها طوال السنين، كانت قد احترقت أمامي". وعندما انهار محصولها من الزيتون، كانت ندى في وضع اقتصادي حرج، لم تعد قادرة على بيع الزيت للمعامل المحلية أو تغطية التكاليف المتزايدة، وكلما نظرت إلى قطعة الأرض التي رأت فيها مستقبلاً آمنًا لأطفالها، تذكرت مشاعر الألم والغربة.
وفي السياق، صرح عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وعضو تجمع مزارعي الجنوب، عمران فخري، في حديث خاص مع "العربي الجديد"، بأنه لا شك أن لتدمير الأراضي الزراعية عواقب وخيمة على الاقتصاد اللبناني، وبالأخص اقتصاد الجنوب، حيث تُعتبر الزراعة أحد المصادر الرئيسية لتأمين الغذاء المحلي في المنطقة. وهذا يساهم في تحقيق نوع من الأمن الغذائي في ظل الظروف الصعبة التي يواجهها هذا القطاع بسبب العدوان المباشر على الأراضي الزراعية، وعلى الإنسان والبنية التحتية.
وأضاف فخري أن "تلوث التربة سيؤثر سلبًا على إمكانية إعادة زراعة الأراضي، بسبب تدني خصوبتها في المرحلة الأولى قبل معالجة الأرض وتعقيمها، وهو أمر يتطلب سنوات لاستعادة خصوبتها. وسيؤدي ذلك إلى انعدام فرص العمل وانتشار البطالة، فضلًا عن تراجع مساحات زراعة الخضروات. وهذا التراجع سيُحدث نقصًا في الإنتاج المحلي بنسبة تقارب 30% من إجمالي الإنتاج المحلي، مما يزيد الطلب على المنتجات الزراعية المحلية، وبالتالي يرفع أسعارها بشكل كبير".
وأوضح عضو المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي أن خسارة الأراضي المزروعة بأشجار الزيتون والحمضيات والموز "ستؤثر بالتأكيد على كمية الإنتاج المحلي. ومع ذلك، فإن هذا التأثير يعتمد على طبيعة الخسائر: إذا كانت الأضرار بسيطة، فإن إعادة تأهيل البساتين قد تستغرق سنة أو سنتين لتستعيد إنتاجها الطبيعي. أما إذا كانت الأضرار كبيرة وتستلزم إعادة تأهيل الحيازات وزراعتها من جديد، فذلك سيتطلب سنوات طويلة لتعويض الإنتاج. نتيجة لذلك، سيشهد الناتج المحلي الزراعي تراجعًا، مما سيؤدي مرحليًا إلى تغليب كفة الاستيراد على التصدير".
وأكد فخري أن "خطة الدولة لتعويض المزارعين الجنوبيين بعد الحرب لا تزال مجرد خطة مع وقف التنفيذ، ما لم تتوفر مصادر التمويل اللازمة. ويعود هذا التعثر أيضًا إلى الضعف الكبير في المؤسسات الزراعية العامة، وإلى غياب الجهود لإنشاء مصرف مركزي تنموي زراعي وصندوق الكوارث الطبيعية والحربية، الذي كان يجب إنشاؤه منذ عام 2005". واعتبر أن المصارف اللبنانية الخاصة تعاني حالة موت سريري منذ عام 2019، علمًا أنها كانت تشكل أحد الحلول لتمويل الاقتراض قبل الأزمة الاقتصادية. لذلك، يرى أنه "من الضروري أن تتحمل الدولة مسؤوليتها في مسار التعويضات الزراعية، لتمكين المزارعين من التمسك بأرضهم وإعادة الأمل إليهم للعيش بكرامة".
وشدد المتحدث ذاته على أهمية وضع وزارة الزراعة لبروتوكول واضح للتعامل مع الأضرار الزراعية المختلفة، بهدف إعادة تأهيل الأراضي، يتضمن إصلاح التربة وزراعتها، وتعقيمها، وإضافة مواد عضوية ذات جودة، وتكييف أنشطة الإصلاح مع الموسم والتوقيت الملائم لدورة المحاصيل وخطة الزراعة لكل حقل أو بستان. كما دعا إلى "تقدير الوقت اللازم لإصلاح الأراضي والتعويض عن انخفاض المحاصيل في السنوات القادمة، حتى تتم استعادة الأمن الغذائي بشكل كامل".
بينما يعتمد المزارع أبو علي، من البقاع اللبناني، على قطعة أرض صغيرة لزراعة القمح. وتلك الأرض، الممتدة على خمسة دونمات، كانت تشكّل مصدر الرزق الوحيد لعائلته المكونة من ستة أفراد. وبينما كان القصف الإسرائيلي يدكّ القرى والحقول، شبت النيران في حقل أبو علي إثر قذيفة مباشرة، حاول الاقتراب لإخماد الحريق، لكن شدة القصف أجبرته على الفرار لإنقاذ حياته. من بعيد، شاهد الحقل يتحول إلى كتلة من الرماد في دقائق معدودة. وقال في حديث مع "العربي الجديد": "رأيت تعب سنة كاملة يُدمَّر أمامي، كانت النار تلتهم سنابل القمح كأنها تأخذ قطعة من روحي معها". وقال: "خسارة الحقل لم تكن مجرد خسارة اقتصادية؛ فالقمح كان يوفّر لأسرتي الطعام الأساسي على مدار العام". وبفعل الخسارة الناجمة عن العدوان الإسرائيلي، عجز أبو علي عن شراء القمح من السوق بسبب ارتفاع الأسعار. ورغم ألم الخسارة، ما زال أبو علي متمسكاً بالأمل: "هذه الأرض لنا، لن نتركها للحرب. سأبدأ من جديد، ولو من سنبلة واحدة".
بدوره، صرح رئيس اتحاد نقابات المزارعين، جهاد بلوق، في حديث خاص لـ"العربي الجديد"، بأن هذا الموضوع كان موضع متابعة مع الوزراء المعنيين، والنقابات، والجهات الأهلية، والفعاليات الزراعية، إذ كان جميع الوزراء على علم بأن قدرات الوزارة لا تفي بحاجات ومتطلبات المزارعين. إلا أن هذا الأمر، في الفترة الأخيرة، تعرض للتجاهل، وأضاف أن "تطوير التقنيات الزراعية يحتاج إلى تكامل بين الجهات المعنية بالقطاع الزراعي من مؤسسات أهلية ووزارة الزراعة، إلا أن هذا التكامل لم يتحقق بالشكل المطلوب".
وأوضح بلوق أن تحسين استجابة القطاع الزراعي لمواجهة مثل هذه الكوارث يتطلب التكامل بين الوزارة والمزارعين، من خلال وضع المشكلات وتحديد سبل معالجتها. وأكد أن "أهم خطوة في المرحلة الأولى تكمن في وضع آلية تواصل دائمة، تهدف إلى تقديم حلول واضحة وسريعة". وأشار إلى أن "من أبرز المشكلات والخسائر التي لحقت بالمزارعين، الانفصال بين الوزارة والمزارعين، حيث يتم التعامل معهم من برج عالٍ"، على حد وصفه، موضحاً أن "النتائج ظهرت جلية في الخسائر الناتجة عن العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان". وأضاف أن "وزارة الزراعة لم تقم حتى الآن بأي مسح ميداني على الأرض، بل اكتفت بتوجيه المزارعين لتسجيل الأضرار عبر المنصة التي أطلقتها"، مشيراً إلى أن التقرير الأولي الذي يُبنى على هذه المنصة "قد لا يعكس الواقع كما هو، لأن تقييم الأضرار يتطلب آليات ميدانية دقيقة، وهناك أضرار مباشرة وغير مباشرة يصعب تحديدها عبر المنصة، مثل المزارعين الذين لم يتمكنوا من جني محاصيلهم أو بيعها في الأسواق نتيجة الحرب، مما أدى إلى تلفها في الحقول".
وأكد أن "هناك إمكانية للتلاعب في حجم الأضرار المعلنة عبر المنصة، حيث قد يلجأ البعض إلى تضخيم خسائرهم للحصول على تعويضات أكبر. على سبيل المثال، من تكبد خسارة بنسبة 10% من محاصيله قد يدّعي خسارة بنسبة 100%". وأشار إلى أن الأضرار "تركزت بشكل كبير في مناطق البقاع وشمال الليطاني، ومنطقة بعلبك-الهرمل، حيث جرى توثيق حوالي 2600 استمارة للأضرار المباشرة من قبل فريق متخصص".
وذكر أن العديد من الزراعات، مثل الزيتون والحمضيات، تعرضت لدمار كامل، ما يتطلب إعادة إحياء الأراضي من جديد. كما أن البنية التحتية الزراعية تحتاج إلى تدخل فوري، وهو ما يستلزم جهدًا مشتركًا بين الجهات المعنية.
وأوضح بلوق أن "المناطق الزراعية المحاذية للحدود تعرضت لخسائر جسيمة بسبب التدمير الممنهج من قبل العدو الإسرائيلي، واستخدامه للقنابل العنقودية، التي تؤدي إلى تلوث التربة وتجمد إنتاجيتها، بل تمنع حتى دخول الأراضي بسبب خطر الانفجارات. هذا الأمر يتطلب معالجة فورية تبدأ بإزالة آثار العدوان وفحص التربة لتحديد حجم الأضرار ومعرفة ما إذا كان يمكن معالجتها أم لا". وأكد أن إعادة بناء البنية التحتية الزراعية، بما في ذلك الطرق، والبيوت البلاستيكية، ومحركات الري، ضرورة قصوى. ودعا إلى إجراء عمليات تعويض فورية تعتمد على الكشف الميداني الدقيق، لمعالجة الأضرار التي شملت الأراضي الزراعية، والمزارع، والمعدات. وشدد على أن الأزمة الأخيرة، التي ألحقت أضرارًا جسيمة بالقطاع الزراعي، سلطت الضوء على المشكلات المزمنة التي يعاني منها القطاع. وأكد أن "الحل يتطلب معالجة عاجلة وشاملة لإعادة الحياة إلى هذا القطاع".
وتابع بالقول إن إنشاء صندوق تعويضات الكوارث الطبيعية بات ضرورة ملحة، وقد وافق عليه مجلس النواب في وقت سابق. وأوضح أن "تشغيل هذا الصندوق سيجنب الدولة الحاجة إلى البحث عن التمويل في كل مرة تحدث فيها كارثة، وسيؤمن للمزارعين تعويضات مستدامة عبر اشتراكات رسمية، بإدارة جهاز متخصص موجود في كافة المناطق".
وفي وقتٍ سابق، أعلنت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، في بيان صادر عن السفارة الأميركية في بيروت، أنها أطلقت في الأول من شهر اكتوير/ تشرين الأول 2024 نشاطًا جديدًا بعنوان تمكين الأنظمة المحلية في الزراعة في لبنان (ELSA)، يمتد لخمس سنوات، وبميزانية قدرها 10 ملايين دولار هدفها تطوير أنظمة السوق الزراعية لضمان وصول مستدام إلى الموارد والأسواق.
من جهتها، أكدت مديرة بعثة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في لبنان، جولي ساوثفيلد، أهمية دعم القطاع الزراعي في لبنان، مشيرة إلى أن "ذلك يُعدّ ضروريًا ليس فقط لدعم النمو الاقتصادي، بل أيضًا لتحقيق استدامة للمجتمعات الريفية". وبالاشارة إلى أن الوكالة الأميركية للتنمية الدولية استثمرت، خلال العقد الماضي، أكثر من 80 مليون دولار في قطاع الزراعة اللبناني، مما ساهم في تحسين الدخل لأكثر من 40 ألف أسرة ريفية، واستقطاب أكثر من 40 مليون دولار من الاستثمارات الخاصة، وتحقيق مبيعات بقيمة 170 مليون دولار على مستوى الشركات والمزارع،
في سياق متصل، استعرض وزير الزراعة عباس الحاج حسن، خلال استقباله وفداً من منظمة فاو (منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة)، التفاصيل المتعلقة بمسح الأضرار الزراعية التي خلفتها الحرب الإسرائيلية على لبنان، حيث جرى التركيز على متابعة تقييم حجم الأضرار في مختلف المناطق الزراعية وسبل تقديم الدعم للمزارعين المتضررين.