استمع إلى الملخص
- شهدت الأسواق الأوروبية انتعاشًا ملحوظًا، خاصة الأسهم الدفاعية، بفضل زيادة الإنفاق العسكري المحلي وتراجع الاعتماد على الولايات المتحدة، مما أدى إلى ارتفاع مؤشر "داكس" الألماني بنسبة 15% هذا العام.
- تثير سياسات ترامب التجارية مخاوف من تأثيرات سلبية على الاقتصاد الأميركي والعالمي، حيث فرضت رسوم جمركية على واردات الصلب والألمنيوم، مما يزيد من احتمالات الركود وتباطؤ النمو الاقتصادي عالميًا.
يسيطر القلق على المستثمرين في الأسهم الأميركية، إذ أقدم البعض على تصفية محافظهم الاستثمارية ونقل أموالهم إلى أسواق أخرى منها أوروبا، بينما لجأ آخرون إلى تقليصها وضخ أموالهم في ملاذات آمنة مثل الذهب لتخفيف أي صدمات محتملة بفعل سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي يُنظر إليها على أنها ستدفع الاقتصاد الأميركي إلى "تدمير ذاتي".
بدأ المستثمرون الذين استثمروا كل أموالهم في الأسهم الأميركية تحديداً بالتطلع إلى أسواق أخرى، بعدما تلاشى شعار "الاستثنائية الأميركية" في 2025 الذي روّجته بنوك استثمار أميركية كبرى في أعقاب فوز ترامب بالانتخابات الرئاسية التي جرت في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. فبعد شهرين فقط من إعلان بنك الاستثمار الأميركي "جيه بي مورغان تشيس" أن الاستثنائية الأميركية هي "الشعار الاستثماري السائد والمهيمن" لعام 2025، يتطلع المستثمرون العاديون في جميع أنحاء العالم إلى استثمارات أخرى.
وبدلاً من ركوب موجة الأداء الأميركي المتفوق، يُحلل المستثمرون التداعيات المحتملة لحروب الرسوم الجمركية التي يشنها ترامب على حلفاء واشنطن وخصومها على حد سواء، والتحولات الكبرى في السياسة الخارجية الأميركية. وفي هذه الفترة المتقلبة تتجاوز الأسواق في الصين وأوروبا التوقعات بتسجيل ارتفاعات لافتة. إذ تلقّت الأسهم الأوروبية دفعة قوية، يوم الجمعة الماضي، عندما وافقت الحكومة الألمانية على خطة لضخ ما يصل إلى تريليون يورو (حوالي 1.09 تريليون دولار)، في الاقتصاد الوطني، مع تخصيص معظم هذه الأموال لدعم جهود البلاد الدفاعية. وقد ارتفع مؤشر "داكس" الألماني بنسبة تقارب 15% هذا العام، ويأمل بعض المستثمرين أن يُخرج الإنفاق الضخم البلاد من ركودها. كما تُكثّف الدول في جميع أنحاء أوروبا إنفاقها العسكري المحلي، في ظلّ تزايد انعزالية الولايات المتحدة في سياستها الخارجية. ونتيجةً لذلك، تشهد أسهم شركات الدفاع في المنطقة ازدهاراً ملحوظاً.
استيقاظ أوروبا النائمة
وقالت ليا هولمغرين، وهي متداولة سلوفاكية مقيمة في ميامي، وتُدرّب مستثمرين مبتدئين، إن أوروبا كانت "نائمة تقريباً" لسنوات. وأضافت أن مؤشر "داكس" والبنوك الأوروبية أظهرت مؤخراً بوادر واعدة، مُضيفةً أن أجندة ترامب "أميركا أولاً" ستُجبر الشركات الأوروبية على أن تكون أكثر عدوانية. وفي فبراير/شباط الماضي، حوّلت هولمغرين بعض أصولها قصيرة الأجل بعيداً عن الولايات المتحدة إلى شركات الدفاع الأوروبية.
وقالت هولمغرين وفق تقرير لصحيفة وول ستريت جورنال الأميركية، أمس الأحد: "الجميع يستثمر في الأسهم الأميركية.. إنها أعظم الشركات في العالم، لكن التقييمات جنونية.. ما هو مستقبل هذه الشركات؟ هل يُمكن لشركة إنفيديا (متخصصة في صناعة الرقائق الإلكترونية) أن تُضاعف 10 أضعاف مرة أخرى؟ ولهذا السبب، أعتقد، يلجأ الناس إلى أسواق أخرى".
وفقاً لشركة الخدمات المالية "مورنينج ستار" ومقرها شيكاغو، ضخ المستثمرون في الشهرين الأولين من العام الجاري ما يزيد عن ملياري دولار في الأسهم الأوروبية، وهو ما يتجاوز ما سحبوه من صناديق المؤشرات المتداولة في الولايات المتحدة. ويعد هذا ارتفاعاً حاداً مقارنة بما تسرب خلال النصف الثاني من العام الماضي بأكمله، عندما تسرب أكثر من 8.5 مليارات دولار من تلك الصناديق نفسها. في الوقت نفسه، كانت وتيرة التدفقات إلى صناديق الأسهم الأميركية المتداولة أبطأ في الشهرين الأولين من 2025 مقارنةً بالشهرين الأخيرين من عام 2024. ومنذ بداية العام الجاري، هبط مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" بنسبة 3.6%، بينما ارتفع مؤشر "ستوكس 600 الأوروبي" بنسبة 8.3%.
وسيحصل المستثمرون على قراءة أخرى للظروف الاقتصادية الأميركية، هذا الأسبوع، مع بيانات جديدة عن أسعار المنتجين، وطلبات السلع المعمرة، ومبيعات المنازل الجديدة، وآخر استطلاع لثقة المستهلك. وبينما لا يزال المستثمرون المتحمسون للأسهم الأميركية يرون أن هناك أساسيات للاستثمار تتمثل في أن الشركات المحلية تتمتع بتوقعات قوية ومستعدة للهيمنة على الأسواق العالمية على المدى الطويل، مع نمو الذكاء الاصطناعي بوصفه عاملاً مساعداً رئيسياً، ما زال هناك من يشيرون إلى تصدعات تهدد هذه الأساسات تتمثل في الانخفاض الحاد في ثقة المستهلك، كما أن شبح التضخم لا يزال حاضراً، ويتراجع المستهلكون عن جميع أنواع المشتريات، ويخشى البعض من أن الاعتماد كلياً على الولايات المتحدة لم يعد الخيار الأمثل.
في الأثناء يجد المستثمرون صفقات رابحة في كل مكان تقريباً حول العالم. وتُتداول الأسواق العالمية بخصومات شبه قياسية مقارنةً بالولايات المتحدة، إذ بلغ معدل السعر إلى الأرباح للشركات المدرجة في مؤشر "ستوكس أوروبا 600" خلال العام الماضي حوالي 18.7 مرة، بينما بلغ 24.6 مرة لمؤشر "ستاندرد آند بورز 500" الأميركي، وفقاً لبيانات سوق داو جونز. أما معدل مؤشر هانغ سنغ فهو أقل من 13 مرة. ومعدل السعر إلى الأرباح هو مقياس تقييم يستخدم لمقارنة سعر السهم الحالي للشركة بأرباحها لكل سهم. وقدّم بعض المستثمرين المقيمين في الخارج سبباً آخر لنقل بعض استثماراتهم على الأقل خارج الولايات المتحدة، وهو احتمال استمرار تدهور علاقة إدارة ترامب بأوروبا.
تغير النظرة الاستثمارية تجاه أميركا
وتتبدل النظرة الاستثمارية إزاء الولايات المتحدة منذ فوز ترامب وكذلك خلال فترة الرئيس السابق جو بايدن. وفي تقريره النهائي قبل مغادرته البيت الأبيض، قال مجلس مستشاري بايدن الاقتصاديين إن الولايات المتحدة أصبحت بمثابة مغناطيس للاستثمار الأجنبي بالنظر إلى مرونة التعافي في الولايات المتحدة. وقد اجتذبت جهود إدارة بايدن الرامية إلى استثمارات جديدة في البنية التحتية والطاقة النظيفة وتكنولوجيا أشباه الموصلات تدفقات عالمية، خاصة من الحلفاء المقربين، بما في ذلك كندا واليابان وكوريا الجنوبية وبريطانيا.
وشكلت حصة الولايات المتحدة من تدفقات رأس المال الإجمالية العالمية نحو 41% في الفترة 2022-2023، وهي أعلى حصة من أي دولة أخرى، ونحو ضعف حصتها قبل جائحة فيروس كورونا البالغة 23%. وكانت بريطانيا هي المساهم الأكبر في تدفقات رأس المال إلى الولايات المتحدة في عام 2023، تليها كندا وفرنسا ولوكسمبورغ وسنغافورة.
كيث موفات الذي ولد في كندا، ويعيش في هولندا، ويحمل جواز سفر أيرلندياً، أحد الذين سحب أمواله من الأسهم الأميركية التي كانت تستحوذ على 90% من استثماراته، قائلاً، وفق وول ستريت جورنال، إنه باع جميع استثماراته الأميركية في الأسابيع القليلة الماضية، واستثمر في صناديق المؤشرات المتداولة التي تضم أسهم شركات أوروبية ودولية أخرى، إلى جانب أسهم الدفاع الأوروبية. ذكر موفات أن السوق الأميركية مبالغ في سعرها، لكن خطاب ترامب الذي أشار فيه إلى كندا على أنها الولاية رقم 51 كان مؤلماً أيضاً بالنسبة له. وأضاف: "لقد كان بمثابة طعنة في القلب.. هناك الكثير من الأوروبيين الأثرياء الذين يشعرون بالغضب مما يحدث في الولايات المتحدة.. لماذا نستثمر أموالنا هناك؟"
كذلك بيتر ستيرن، أميركي يبلغ من العمر 41 عاماً ويقيم في ألمانيا، كان يحتفظ بحوالي 70% من محفظته الاستثمارية في الولايات المتحدة. يعمل ستيرن في شركة تكنولوجيا أميركية، ويخشى أن يفقد وظيفته، وربما مدخراته، في حال تفاقمت النزاعات السياسية عبر الأطلسي. يقول ستيرن: "أنفق اليورو، وأربحه باليورو، وكل أموالي عالقة في الولايات المتحدة.. لم أعد أشعر بالأمان لترك أموالي في الولايات المتحدة".
يعيد ستيرن استثمار محفظة سنداته الأميركية في الأسهم والسندات الأوروبية، على أمل المساهمة في تمويل الجهود الأمنية الأوروبية. لكن هناك تداعيات ضريبية باهظة لنقل رأس المال عبر الأطلسي، لذا فهو متمسك بأسهمه الأميركية.
قد تكون هناك رهانات ذكية في الخارج، لكن العثور على تلك الأسهم يتطلب وقتاً ومهارة، كما يقول توماس كوبر، رجل أعمال يبلغ من العمر 34 عاماً ومقيم في أوهايو ويتداول يومياً في الأسهم. وبينما اشترى كوبر المزيد من الذهب لحماية نفسه من تقلبات سوق الأسهم في عهد ترامب، لكنه شعر بالرهبة من فكرة البحث عن استثمارات في الخارج، نظراً إلى ضيق وقت عمله. قال كوبر: "ليس لديّ أفضلية في أسواق أوروبا والصين وجميع الأسواق الناشئة في العالم لأشعر بالثقة في التداول بحجم الأموال التي أتداول بها". ومع ذلك، تبدو الفكرة مغرية. وقال كوبر: "لا ألوم أحداً.. أرى أعلى مستوياتها على الإطلاق في الخارج".
وأما ما يخص شريحة أخرى من المستثمرين، فإن الأسهم الأميركية جيدة جداً بحيث لا يمكن خسارتها. ويراقب أندرو بارنيت من ولاية كوينزلاند شمال شرق أستراليا، الوضع بقلق متزايد بشأن ما ستعنيه أحدث السياسات الصادرة عن واشنطن على النمو الاقتصادي. وقد نقل أكثر من نصف محفظته الاستثمارية إلى أسهم غير أميركية، مثل مجموعة "إل في إم اتش" (LVMH) للسلع والمنتجات الفاخرة التابعة للملياردير الفرنسي برنارد أرنو، ومجموعة "علي بابا" للتجارة الإلكترونية الصينية. لكنه يعتقد أيضاً أن الولايات المتحدة تضم أفضل المواهب العالمية وأنجح شركاتها، ولم يتخلَّ عن الاستثنائية الأميركية. وقال: "هناك 27 دولة في الاتحاد الأوروبي، و27 ثقافة ولغة مختلفة، وأعمار تقاعد مختلفة. أعتقد أن الولايات المتحدة ستتفوق دائماً على أوروبا.. ولكن في فترات معينة، كما هو الحال الآن، سنرى فرصاً ضئيلة".
ترامب يدفع الاقتصاد الأميركي إلى "التدمير الذاتي"
وتثير سياسات ترامب مخاوف من اتساع نطاق الحرب التجارية العالمية وتسببها في تأثيرات سلبية على الاقتصاد الأميركي الذي تتزايد احتمالات دخوله في ركود. وفي وقت سابق من مارس/آذار الجاري، قال وزير الخزانة الأسترالي جيم تشالمرز، إن الرسوم الجمركية الأميركية على الصلب والألمنيوم "تأتي بنتائج عكسية". وأضاف تشالمرز في حديث إلى هيئة الإذاعة الأسترالية، الثلاثاء الماضي: "هذه الأنواع من التعرفات الجمركية تأتي بنتائج عكسية، وهي بمثابة تدمير ذاتي، كما أنها وصفة لتباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع التضخم، ليس فقط في الولايات المتحدة، بل في جميع أنحاء العالم".
وكان ترامب وقّع في العاشر من فبراير/ شباط الماضي أمرين تنفيذيين فرض بموجبهما رسوماً جمركية بنسبة 25% على واردات بلاده من الصلب والألمنيوم من كل الدول، وذلك اعتباراً من 12 مارس/آذار "من دون استثناءات أو إعفاءات". ومن المرجّح أن تؤدّي هذه الرسوم الجمركية الباهظة على هذين المعدنين إلى زيادة تكلفة إنتاج كل شيء تقريباً في الولايات المتحدة، بدءاً بعلب المشروبات والأغذية وصولاً إلى الأجهزة المنزلية والسيارات، ممّا يهدّد برفع أسعار المستهلكين في المستقبل.