"كلُّ العشَّاق في الليل" لـ مييكو كاواكامي: بطءٌ مديني أم إعياء "زمن السرعة"؟

17 فبراير 2025
حين يصير البشر مجرّد آلات
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- بعد الحرب العالمية الثانية، تحول الأدب الياباني من التركيز على العائلات البطريركية وجماليات الطبيعة إلى مواضيع عصرية تتعلق بنمط الحياة التكنولوجي في المجتمع الصناعي، مع سرد يعكس حياة المدينة السريعة والتحديات الاجتماعية.

- الكاتبة مييكو كاواكامي تبرز في تناول هذه المظاهر الحديثة، حيث تصور في روايتها "كلّ العشّاق في الليل" حياة فويوكو، مدققة كتب تعاني من العزلة الاجتماعية بسبب عملها الحر.

- الرواية تسلط الضوء على محاولات فويوكو لكسر وحدتها من خلال علاقتها مع ميتسوتسوكا، وتعكس كيف أن الحياة في العصر الرقمي تفتقر إلى الشغف والحرارة.

أدَّت خسارة اليابان الحرب العالمية الثانية إلى حدوث تغييراتٍ جذريَّة، شملت مختلف مناحي الحياة في الجزيرة ذات التاريخ الإمبراطوريّ. انعكست هذه التغيُّرات التي أصابت نمط حياة الناس وطريقة تفكيرهم في الأدب، الذي يُمثِّل المرآة العاكسة لأحوال المجتمع على الدوام. 

وبعد أن كانت الرواية اليابانية الأصيلة تتغلغل في تفاصيل حياة العائلات البطريركيَّة بأجيالها المتلاحقة، وتفرز فصولاً، بل تُسخِّر نفسها بالكامل أحياناً، لوصف جماليات الطبيعة ومراقبة تفتُّح أزهار الأشجار والحقول، أو رصد الحركات التكتونية الملحوظة والاستماع إلى تنفُّس الأرض و"ضجيج الجبل"، كما نقرأ عند ناتسومي سوسيكي وياسوناري كاواباتا ويوكيو ميشيما، على سبيل المثال، صار معيار الأصالة اليوم مختلفاً، وربَّما تكون الرواية اليابانية أكثر عصريَّةً من سواها من روايات العالم، ربطاً بنمط الحياة التكنولوجي في أحد أكبر المجتمعات الصناعية في العالم.

تخلَّت الرواية اليابانيَّة عن موضوعاتها السابقة، كما تخلَّت عن إيقاعها الريفيِّ البطيء، وإن حلَّ محلَّه في بعض الأحيان بطءٌ مدينيٌّ هو في الواقع صورةٌ من صور الإعياء من حياة السرعة الضاجَّة ليس إلَّا، ومن نظام العمل المحموم ذي الحوافز الذي يجعل جميع الموظّفين يجدُّون في أداء وظائفهم أكثر، مُحوِّلاً إياهم إلى آلاتٍ ومُعمِّقاً عزلتهم الاجتماعية.

سردٌ يعكس طبيعة أحد أكبر المجتمعات الصناعية في العالم

من أبرز الأصوات اليابانية الروائيَّة المعاصرة، التي اهتمَّت بهذه المظاهر الحديثة، الكاتبة مييكو كاواكامي (1976). رصدت كاواكامي في "الجنَّة"، روايتها الأولى المترجمة إلى العربية، ظاهرة التنمُّر المستفحلة في المدارس اليابانيَّة، أمَّا في روايتها الثانية "كلّ العشّاق في الليل"، الصادرة حديثاً عن "دار الآداب" بترجمة أحمد جمال سعد الدين، فتصوِّر لنا "ضحيَّةً" من نوعٍ آخر، ضحيَّةً طوعيَّة تكتسب معنى حياتها من التضحية التي تُقدِّمها.

تعمل فويوكو مُدقِّقة كتب في دار نشر، تجلس ساعاتٍ طويلةً أمام المخطوطات محاطةً بالمراجع، وتعاني آلام العمود الفقري التي تُداريها بأداء تمرينات رياضيَّةٍ وهي جالسة على كرسيها. بعد أن قضت سنواتٍ في إحدى الدور من دون أيِّ تواصلٍ يُذكر مع زملائها في المكتب ذاته، الذين كثيراً ما سخروا من طبعها الخاصّ وانغلاقها على ذاتها، تُقرِّر ترك وظيفتها وممارسة العمل نفسه لكن بشكلٍ حُرٍّ وهي في منزلها بعيداً عن إزعاجاتهم، وذلك بتحريضٍ من إحدى زميلاتها السابقات التي أسَّست شركةً تؤمِّن مدقِّقين لتهيئة مخطوطات الكتب للعديد من دور النشرٍ التي تتعامل معها. 

يُفاقم نمط العمل الجديد من عزلة الشابَّة الثلاثينيَّة العزباء وغرقها في الأوراق، فهي لا تعمل هنا مقابل معاشٍ ثابتٍ ستحصل عليه مطلع كل شهر، بل يتعلَّق دخلها بعدد ما تُنجزه من صفحات، لذلك نجدها تُحدِّد لنفسها عدداً ثابتاً من الصفحات التي يجب إنجازها يوميّاً مهما بلغت درجة إرهاقها، كي لا يقلَّ دخلها عمَّا كان أيام الوظيفة الثابتة والراتب المحدَّد.

مييكو كاواكامي - القسم الثقافي
مييكو كاواكامي في جلسة تصوير بطوكيو، 2011 (Getty)

لا تخرج فويوكو من البيت إلا قليلاً، لتسليم ما أنجزته وتسلّم مخطوطات كتبٍ جديدة، أو لمقابلة هيجيري، المسؤولة عنها في العمل الجديد، التي تختلف عنها اختلافاً جذرياً في السلوك ونمط العيش، ومع ذلك لم تنجح في التأثير فيها إلّا قليلاً وبعد عناءٍ كبير؛ أو نوريكو، صديقتها من أيام المدرسة الثانويَّة. يدور الحديث في تلك الجلسات في شؤون العمل المتشعِّبة، وأحوال العائلة المتردِّية، إن كان هناك ارتباطٌ وعائلةٌ أصلاً، فأصدقاؤها وحيدون بدورهم، أو يعيشون بعدم توافق مع أزواجهم. كما أنَّ هناك خروجاً دالّاً آخر هو مشاركةٌ لفويوكو في دفن مديرٍ سابقٍ لها، قيل إنَّه مات بذبحةٍ قلبيَّة، لكنَّ الحقيقة أنَّه انتحر تحت وطأة الوحدة بعد أن تقاعد، والذبحة القلبيَّة أو الجلطات الدمويَّة هي حجج تقليديَّة تقولها العائلات لعدم الاعتراف بانتحار أحد أفرادها، وتحمُّل العار أو التهرُّب من المسؤولية الواقعة عليها من جرَّاء ذلك. 

حتى الفرصة الوحيدة للبطلة بعَيش قصّة حُبٍّ تبدّدت

في إجراءٍ لجأت إليها فويوكو لكسر وحدتها، تذهب إلى مركزٍ تعليميٍّ للتسجيل في إحدى دوراته العديدة، فتتعرَّف هناك إلى الرجل الخمسينيِّ ميتسوتسوكا، وتُعجَب به رغم كبر سنِّه ومنظره المتعَب على الدوام. يصبح الساكي وأنواع المشروبات الكحوليَّة الأخرى مُعيناً لفويوكو في فترات انتظارها المتوتِّرة بين لقاءٍ مع ميتسوتسوكا وآخر، ومؤنساً لها في وحدتها المديدة واستراحاتها التي يخرّبها عليها نمط عملها الآليّ، حيث لا تستطيع ألَّا تلاحظ الأخطاء الإملائية الموجودة في الإعلانات أو المكتوبة على عبوات الموادّ الغذائيَّة، أو حتى تلك الواردة في ترجمة فيلم السهرة الذي تتابعه على التلفزيون.

بعد الكثير من التردُّد المُستفزِّ الذي يطبع سلوك فويوكو، تتوالى لقاءاتها بميتسوتسوكا في أحد المقاهي، وتطول جلساتهما ونزهاتهما الليليَّة التي يتبادلان خلالها الصمت وأحاديثَ متفرِّقةً لا يُبارحها الخجل رغم تقدُّمها. يستمرُّ ذلك إلى أن يتغيَّب الرجل عن موعده الأخير مع الفتاة، التي زاد تعلُّقها به إلى حدِّ سؤالها له إن كان قد تخيَّل نفسه معها في الفراش، ثم يختفي بعدها. يشرح لها في رسالةٍ سبب اختفائه من حياتها، إذ يبدو أنَّه أحبَّها بدوره من دون أن يُصارحها بذلك أيضاً، ولم يعد قادراً على الكذب عليها أكثر. لم ينجح هذا الرجل في تحقيق ذاته في الحياة، فقد سُرِّح قبل أشهر من المصنع الذي كان يعمل فيه وأصبح عاطلاً عن العمل، هو الذي أخبر فويوكو بأنَّه أستاذ فيزياء كما كان يرغب أن يكون، لكنَّ ظروف عائلته لم تساعده على إكمال تعليمه، وإن كان ذا اطّلاعٍ في هذا المجال، حيث شرح لفويوكو الكثير من الأشياء عن الضوء الذي لديها نحوه فضولٌ كبير. 

وجود ميتسوتسوكا منَح حياة فويوكو معنى، وولَّد فيها حرارةً جعلها تعيش بشغفٍ لم تعهده في نفسها. ورغم ذلك لم يُحدِث غيابه فرقاً ملحوظاً، إذ تعاملت معه تعامُلَ النائم الذي يستيقظ من حلم، وتابعت عيش حياتها بالكيفية السابقة ذاتها.
"كلّ العشَّاق في الليل" هي روايةٌ عن تحوُّل البشر في العصر الرقمي إلى آلاتٍ بلا مشاعر، لا دور لها إلَّا إنجاز المهمَّات وأداء الأعمال، بحيث تنطفئ وتفقد القدرة على الفعل بنهاية مناوبات دوامها، قبل أن تعود إلى دورة حياتها نفسها في اليوم التالي. حتى النُّزهة الليليَّة لتصفية الذهن بعد انتهاء العمل تُصبح أمراً في حاجةٍ إلى تخطيط، لا تنجح شابَّةٌ مثل فويوكو في فعله سوى مرَّةٍ واحدةٍ في السنة، ليلة عيد ميلادها التي تقضيها وحيدةً، كأنَّها احتفال!


* كاتب من سورية



بطاقة

كاتبة وروائية يابانية من مواليد مدينة أوساكا عام 1976. عُرفت بدايةً مُغنّيةً وأصدرت ثلاثة ألبومات، قبل أن تنتقل إلى عالم الكتابة مُصدرةً مجموعتها الشعرية الأولى عام 2006. عقدت بين عامي 2015 و2017 سلسلة مقابلات مع هاروكي موراكامي، تناولا فيها مواضيع عديدة من أهمّها تصويره للمرأة في رواياته وجنسنتها. من رواياتها: "جنّة" (2009)، و"كلّ العشّاق في الليل" (2011)، و"سيّدة السندوتش الباردة" (2013). 
 

المساهمون