استمع إلى الملخص
- الرمزية في الأعمال الفنية: تعتمد العامودي على بساطة التكوين والرمزية، مثل مشهد العرس الفلسطيني والأم التي تحتضن طفلها، مما يعكس الفرح المغلف بالخوف وغياب الأب، مع استخدام الطبيعة كخلفية للتحديات.
- التفاعل بين الإنسان والمكان: توثق العامودي العلاقة بين الإنسان والمكان وتأثير الحرب، مع التركيز على العائلة والعرس الفلسطيني، مستخدمة أسلوباً هندسياً يضفي صلابة وثباتاً، مستلهمة من رواد الفن الفلسطيني.
تُقدّم الفنانة الفلسطينية رانية العامودي في أعمالها الفنية قصةً مستوحاة من لقاء سابق مع الطفلة مريم، تقاطعت فيه الحكاية مع يوميات حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني منذ تسعة عشر شهراً، لا سيّما في غزة ومخيمات شمال الضفة الغربية، لتنقل هذه الصور المركبة زمنياً ونفسياً وتُعيد إسقاطها في معرض "مريم" المقام حالياً في غاليري "باب الدير" بمدينة رام الله، الذي افتُتح مطلع الشهر الماضي ويتواصل حتى العشرين من الشهر المقبل.
حكاية باللون والذاكرة
تمزج العامودي بين الخاص والعام في تتبّعها قصة شخصية، تنفتح في الوقت ذاته على الذاكرة الجمعية الفلسطينية المتأرجحة بين الحنين إلى الماضي وتقبّل الواقع بكل تناقضاته، التي غيّرت مفهوم المكان بما استحدثه العالم من تقنيات فصلت الإنسان عن الطبيعة. يتجسّد هذا المزج في خمس عشرة لوحة مرسومة بألوان الزيت والأكريليك على القماش، تنوّعت مفرداتها الفنية لتشمل المرأة، والأطفال، والطبيعة، والرجل بحضور خافت، وبعض الطيور.
تعكس هذه المفردات حالة من الرومانسية والخيال الذي يتجاوز حدود الواقعية، من خلال تبسيط العناصر واستلهام مشاهد متخيلة من البيئة الفلسطينية، سواء في الداخل، داخل البيوت، أو في الخارج، حيث كانت الطبيعة ممتدة قبل أن تمزّقها جدران الفصل العنصري والمستوطنات ومعسكرات الجنود. ومع تغييب مفهوم المكان الواقعي وارتباطه بهندسة المسافات، تبدو الأعمال أقرب إلى المتلقي وتنقل أحداثاً ومشاعرَ مباشرة.
بين "الأنا" و"هي"
تقف خلف الأعمال المعروضة شخصية نسائية التقتها العامودي أثناء عملها معلمةً للتربية الفنية في شمال الضفة الغربية خلال انتفاضة الأقصى، وشكّلت منعطفاً واضحاً في تجربتها الفتية. تصفها بأنها "امرأة عادية بملامح هادئة تُخفي رقةً مكسورة"، وتستعيد مشهد ابنها الصغير وهو يلمس جداراً يحمل صورة والده الشهيد، تلك اللحظة التي زرعت في ذاكرتها ألماً كثّفته لاحقاً في هذا المعرض.
في إحدى اللوحات، تأخذنا الفنانة إلى مشهد عرس فلسطيني في ليلة الحنّاء، تقف فيه النساء حول العروس وهنّ يُلقين عليها رداءً أبيض، في صورة تفيض بالفرح المغلّف بالخوف، بين انطلاق حياة جديدة وظلال الحرب التي لا تغادر المكان. على يسار اللوحة، يظهر صحن الحنّاء على الأرض في مشهد مبسّط العناصر، لكنّه يشير إلى تكثيف المعنى وتوظيف العناصر لا كأشكال تزينية، بل كاختزال للزمان والمكان. تظهر خلف النساء أشكال هندسية مزخرفة ممتدة على سطح بساطٍ تداخل مع الأجساد، فبدت النساء وكأنهن عالقات على هذا السطح.
في لوحة أخرى نرى أماً تحتضن طفلها بينما يقف طفل آخر بجوارها، وكلاهما يمسك بعكاز، في دلالة بليغة على غياب الأب وتولّي الأطفال أدواراً تفوق أعمارهم. تتجسّد المشاهد وسط طبيعة فلسطينية قروية تحت شجرة زيتون عتيقة وجبال بعيدة وبعض أشجار الزيتون المسطحة، بحيث يصبح مشهد الطبيعة الخلفي كجدار يُرسم عليه بعض عناصر المكان التي استخدمها فنانون فلسطينيون كثر. إلا أن العامودي تقترحها هنا بشكل مختلف، حيث تمتزج عفوية التكوين بالأسلوب الهندسي الحاد في علاقة طردية بين الأسلوبين، لا سيما في جسد الطفل وظلال الجبال البعيدة، ما يخلق حيرة في فهم الأسلوب الفني الذي يتأرجح بين متناقضين كبيرين، ويذكّرنا بأساليب رواد الفن الفلسطيني مثل إسماعيل شموط وسليمان منصور.
تعتمد العامودي على بساطة التكوين وتسطيح المساحات، مقتربةً من أسلوب "الحكواتي"، حيث تسرد الحكايات البصرية ببساطة ظاهرية تُخفي تعقيد المشاعر المختبئة وراءها، مما يجعلها قريبة من التفاعل الإنساني المباشر دون الحاجة للتفكير بأبعادها التقنية، فتترك أثراً حسياً.
لوحات تعكس حالة من الرومانسية تتجاوز حدود الواقعية
في معظم اللوحات، تنقل الفنانة مشاهد تُشبه الصور الفوتوغرافية، توحي بالصمت والثبات كما لو كانت لحظة التقاط صورة، بينما تنبعث الحركة من داخل المشهد نفسه، في ما يتركه هذا الصمت من حالة تأملٍ في ما تحمله الصورة من معنى. يتجلّى ذلك في قوة بنية الأجساد التي ترسمها بأسلوب هندسي يضفي عليها صلابة وثباتاً حتى في لحظات الفقد والألم، كما في لوحة الأم وابنتها وأطفالها، وظل الأب/الرجل الذي يظهر خافتاً على الجدار. هنا، يطغى الطابع الهندسي على اللوحة بكاملها، مع تسطيح المنظور وإبراز الأجساد في بعدٍ واحد.
العائلة، النساء، الأطفال، والعرس الفلسطيني، تتكرّر كعناصر محورية في معظم اللوحات، وكأن الفنانة تسعى لتوثيق هذه المفردات المهدّدة بالغياب بفعل الحرب والنكبات المستمرة، أو لأسباب أخرى. كما مزجت بين المشاهد الداخلية والخارجية كنوع من استكشاف العلاقة بين الإنسان والمكان، وتأثرهما المتبادل.