ما حدث وما لم يحدث مع معاوية... في الإخلاص للتدوين والخيال الشعبي

09 ابريل 2025
لوجين إسماعيل الذي أدى دور معاوية في المسلسل (MBC)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يتناول مسلسل "معاوية" مادة تاريخية مثيرة للجدل، من تأليف محمد اليساري وخالد صلاح وبشار عباس، مستندًا إلى مراجع تاريخية مثل "تاريخ الطبري" و"البداية والنهاية" لابن كثير، مما ساعد في بناء سيناريو متين.

- أثار المسلسل جدلاً بسبب تجسيده لشخصيات تاريخية حساسة مثل الخليفة علي بن أبي طالب وابنه الحسن، واستبعاد شخصية الحسين، مما أثار نقاشات حول التزامه بالخيال الشعبي مقابل الحقائق التاريخية.

- يبرز المسلسل التحدي بين الإخلاص للتدوين التاريخي والخيال الشعبي، حيث يهدف إلى تقديم رؤية تاريخية دقيقة تعيد النظر في بعض المفاهيم الشعبية الخاطئة.

قد يكون مسلسل "معاوية" من أكثر الأعمال إثارةً للجدل والنقد والهجوم والاستحسان، خصوصاً بعد الإشكاليات التي أثارها في بلدانٍ رحبت بعرضه، ثم تراجعت، وأخرى منعت عرضه من الأساس، بعد اطلاعها على قماشة المادة التاريخية التي تمّ بناء السيناريو من خلالها.

التأليف والسيناريو والتفاصيل

بدايةً من شارة المسلسل، نجد أن هناك ثلاثة كتّاب سيناريو له، وهم: محمد اليساري، وخالد صلاح، وبشار عباس، رغم أن هناك دلالات تذهب إلى أن الشاعر والسيناريست السوري محمد اليساري هو صاحب السيناريو الأساسي، وربّما ساهم الآخران في ما بعد في تنقيح أو تصحيح أو تعديل أو إعطاء نصائح ليُصبح السيناريو قابلاً للتنفيذ. وتلك الدلالات تعود إحداها إلى حوار مع اليساري، قبل ثماني سنوات من عرض المسلسل هذا العام، حيث تحدّث عن قدرة المراجع التاريخية على تقديم كل شيء، ودور كتّاب الدراما التاريخية. وفقاً له: "لم تسكت كتبُ التاريخ ولا المؤرخون عن شيء حتى تستدرك الدراما التاريخية عليهم في شيء، فالتاريخ لم يروِ ما حدث فقط، بل روى ما لم يحدث أيضاً، وهنا أقصد الروايات الكاذبة والملفَّقة. 

فمثلاً في عملي السابق "الحسن والحسين ومعاوية"، وجدتُ في "تاريخ الطبري" قرابة المائة وعشر روايات عن معركة صِفِّين فقط، وبعض هذه الروايات يدحض بعضُها بعضاً. ونحن في حادثة تاريخية كمعركة صِفِّين، أمام رواية صحيحة حدثت بالفعل، ومائة وتسع روايات لم تحدث أبداً ولكنها أصبحت تاريخاً! فالتاريخ والمؤرخون لم يسكتوا عن شيء، بل رووا ما حدث وما لم يحدث".

تقدّم المراجع التاريخية خدمة كبيرة لكاتب السيناريو لكتابة عمل متين وناضج. وأغلب الظن أن اليساري لم يكتفِ بـ"تاريخ الطبري" فحسب، بل استفاد أيضاً من الموسوعة الأضخم لابن كثير، والتي نشرت في 21 جزءاً، وضمّنها ما كتبه ونقله الطبري وابن عساكر وغيرهما.

وقد يجهل البعض أن ابن كثير، والطبري، وابن عساكر، لم يكتبوا الأحداث وحدها بل ذكروا تفاصيل التفاصيل، فكانوا يرون كل شيء تقريباً بما في ذلك أسماء من كان على ميمنة الجيش وميسرته من فرسان ومشاة ونسوة...إلخ حين يقوم بغزوٍ ما. كذلك ذكروا تفاصيل المبارزات بين فارس وآخر، بدءاً من الاسم، ومن قُتل في الحروب ومن مات غرقاً أو بسبب الطاعون أو بأجله. حتى أن ابن كثير قام ليس بتوثيق الخطب التي كان يُلقيها الخلفاء وملوك وأمراء المسلمين والخوارج وغيرهم فحسب، بل ذكر حوارات الأشخاص في ما بينهم، وحتى ما قاله طبيب معاوية عندما سمّمته السوداء لقتله، في أن الترياق سيقطع عنه الخلف.

يطيح كثيراً من الخيال الشعبي المبني على روايات مضادة

بهذا المعنى فإنَّ المؤلّف الأساسي الذي تتمّ الإشارة إليه بشكلٍ غامض وفضفاض على أنّه مادة تاريخية، هو ابن كثير والطبري وغيرهما، رغم أن ابن كثير أورد التفاصيل الأكثر والأدق، وهذا ما نقصده بالتأليف الذي تضمن الأمكنة والأزمنة والشخصيات، بماضيها ونسبها وفضلها وصفتها وآمالها وخطبها وأشعارها وحواراتها، والمعاملات والحوارات والحروب والغزوات... إلخ. أما كاتب السيناريو فقام بقراءة وتدوين ما يلزمه لكتابة السيناريو. 

ما يُحسب في مسلسل "معاوية"، أنه تم تقديم الكتّاب الثلاثة على أنهم كتّاب السيناريو، لا مؤلفون، لكنهم مع ذلك لم يشيروا إلى مرجع التأليف وما إن كان واحداً أو أكثر. ولو كان هناك ورثة لابن كثير، والطبري، وابن عساكر وغيرهم، لكان بإمكانهم مطالبة شركة الإنتاج بحقوقهم، وحتى بوقف العمل عن العرض أو السماح ببثه، خاصة إذا رأوا أن المسلسل كاملاً قد كتبه جدّهم الأكبر في موسوعته التاريخية.

في "البداية والنهاية" يُورد ابن كثير ما يُخالف الرواية الأساسية لحدث ما، وقد تكون عشرات المخالفات، ويشير إلى كتب من يخالفون صحّة هذه الحوادث أو طريقة حدوثها. هنا تحديداً يتجلى إبداع كاتب السيناريو من خلال نظرته الذكية واختياراته لما يلزم لكل ما يُحيط بالسيناريو الذي يريد تقديمه، وقد نجح اليساري، ورفيقاه، في ذلك بدرجة كبيرة، لا يُمكن للمرء نكرانها.

الخضوع للتخييل الشعبي

من كل ذلك نجد أن السيناريو أخلص للتدوين، بغض النظر عن اختيار مدوّنة وإهمال غيرها، في نسبة عالية جداً من التفاصيل، ولكنه خرج عن ذلك التدوين منحازاً إلى الخيال الشعبي في قليل من التفاصيل، خاصة في البنية الجسدية لبعض الشخصيات. ففي "تاريخ الطبري"، يتم وصف الخليفة عمر بن الخطاب بأنه "آدم طوالاً أصلع أعسر يسراً، يمشي كأنه راكب". وفي "البداية والنهاية" لابن كثير "كان، رضي الله عنه، رجلاً طوالاً أصلع، أعسر أيسر، أحور العينين، آدم اللون، وقيل: كان أبيض شديد البياض تعلوه حمرة، أشنب الأسنان، وكان يصفر لحيته، ويرجل رأسه بالحناء". وكما في المسلسل التاريخي الذي تناول سيرة الخليفة الراشدي الثاني، لم يكن عمر بن الخطاب أصلع الرأس.

وفي "تاريخ الملوك" للطبري وصف أبو جعفر محمد بن علي بأن الخليفة الرابع، علي بن أبي طالب، "رجل آدم شديد الأدمة ثقيل العينين عظيمهما، ذو بطن، أصلع، هو إلى القصر أقرب". ووصفه ابن كثير بأنه كان "رجلاً آدم شديد الأدمة أشكل العينين عظيمهما، ذو بطن، أصلع، وهو إلى القصر أقرب، وكان عظيم اللحية، قد ملأت صدره ومنكبيه، أبيضها، وكان كثير شعر الصدر والكتفين، حسن الوجه، ضحوك السن، خفيف المشي على الأرض". وهو ما لم يظهر في هذا المسلسل بأنه سمين وقصير وأصلع. وهو ما يوافق الخيال الشعبي، في رسم علي بن أبي طالب، على أنه وسيم وطويل وذو شعر كثيف.

لم يشيروا إلى مرجع التأليف وما إن كان واحداً أو أكثر

قد يرى أحد ما أن عدم إظهار الصلع هو حرج أو نقصان في الشخص أو مخالفة للخيال الشعبي المبني أصلاً على الخطأ، وهذه دلالة عنصرية، لو شئنا أن نذهب بالأمر إلى نهاياته. فما ضير أن يكون الخليفة عمر أو الخليفة علي أصلع الرأس أو أعرج أو سميناً؟ هل سيفقدان شيئاً من ماضيهما وفكرهما وإيمانهما وقيمتهما لدى الناس؟

الأمر الآخر الذي تسبب بجدل حول المسلسل، هو تشخيص العشرة المبشّرين بالجنة، ومنهم الخلفاء الراشدون الأربعة. وصحيح أن الخليفة عمر تم تجسيده سابقاً، فإن الأمر، خاصة بالنسبة للخليفة علي بن أبي طالب، لم يكن من السهل حدوثه، وهي جرأة تُحسب لفريق العمل.

ورغم ظهور الخليفة علي وابنه الأكبر الحسن، فإنه تم استبعاد تمثيل شخصية الحسين نهائياً. وقد يكون ذلك خضوعاً للخيال الشعبي من جديد، وقد يكون له مسلسله الخاص في ما بعد، رغم استبعادنا لذلك، لحساسية المرحلة التي تتعلّق به وبسيرته وباستشهاده.

مع ذلك كله، قدّم المسلسل وجبة دسمة ومكثّفة من الأحداث والمعلومات والخبرات التي قد يجهلها الكثيرون، والتي قد تُطيح كثيراً من الخيال الشعبي المبني على الروايات المضادة، وبذلك تعود "الغاية" من تقديم هذا المسلسل إلى مسألة الإخلاص للتدوين في مقابل الخيال الشعبي المبني على تدوين آخر.

المساهمون