استمع إلى الملخص
- تحول مان من الأفكار المحافظة إلى دعم الديمقراطية بعد اغتيال فالتر راتيناو، وحذر من النازيين، مما أدى إلى نفيه، حيث واصل نضاله ضد الفاشية عبر الإعلام والكتابة.
- اشتهر بأسلوبه الأدبي العميق وتأثيره العالمي، وأطلقت ألمانيا موقع "مان 2025" لتوثيق الفعاليات، مع معرض في متحف سانت آن.
في الذكرى الـ150 لولادة الكاتب الألماني توماس مان، التي تصادف السادس من يونيو/ حزيران، تشهد ألمانيا سلسلة احتفالات ثقافية واسعة تمتد على مدار عام كامل، تتوزع بين معارض وندوات وعروض مسرحية وقراءات أدبية. ويتزامن هذا الحدث مع صعود لافت لليمين المتطرف محلياً وأوروبياً، ما يمنح الذكرى بعداً سياسياً يكرّس مان رمز مقاومة للانغلاق القومي والاستبداد.
ولد مان عام 1875 في مدينة لوبيك لأسرة برجوازية، وبدأ مسيرته الأدبية متأثراً بأفكار محافظة، عبّر عنها في كتابه "تأملات رجل غير سياسي" (1918). غير أن اغتيال وزير الخارجية فالتر راتيناو في عام 1922 شكّل نقطة تحول عميقة في مواقفه. ففي خطاب ألقاه بعنوان "عن الجمهورية الألمانية"، أعلن دعمه جمهورية فايمار، مؤكداً أن الديمقراطية أكثر التصاقاً بالتقاليد الثقافية الألمانية من الإمبريالية.
ومع تصاعد نفوذ النازيين، اتخذ توماس مان موقفاً حاسماً، فحذّر في خطاب ألقاه ببرلين عام 1930 بعنوان "نداء إلى العقل" من الخطر المحدق بالبلاد، داعياً إلى تحالف سياسي واسع لمواجهة النازية. غير أن الخطاب قوبل بمقاطعة عنيفة من أنصار الحزب، ما اضطره إلى مغادرة القاعة سراً.
بعد وصول هتلر إلى الحكم عام 1933، لجأ مان إلى سويسرا، ومنها إلى الولايات المتحدة، لتبدأ مرحلة جديدة من نضاله السياسي. أُسقطت عنه الجنسية الألمانية عام 1936، لكنه واصل بث خطاباته ضد الفاشية عبر إذاعة "بي بي سي"، كما أصدر كتابه "انتصار الديمقراطية القادم" (1938).
في منفاه الأخير بلوس أنجليس، ظل يكتب ويدافع عن الديمقراطية والحرية، وهو ما أعادت دور النشر الألمانية تسليط الضوء عليه هذا العام، من خلال إعادة نشر عدد من مقالاته وخطاباته، ضمن جهود لإعادة تثقيف الأجيال الجديدة بتاريخ لا تزال تداعياته حاضرة.
اشتهر توماس مان بأسلوبه الأدبي العميق الذي جمع بين السرد الكلاسيكي والبعد الفلسفي، وهو ما بدا جلياً في روايته الشهيرة "الجبل السحري" (1924)، التي شكّلت تأملاً رمزياً في صراع أوروبا بين الحداثة والانهيار. كما قدّم في "دكتور فاوستوس" (1947) صورة مجازية لانحدار ألمانيا في أحضان الفاشية، من خلال قصة موسيقي عبقري يبرم عقداً مع الشيطان.
حافظ مان على "الموقف الأخلاقي للكاتب"، وهو ما ميّز أعماله التي وظّف فيها الموسيقى والفكر الفلسفي، متأثراً بعمالقة مثل فاغنر وبيتهوفن وشوبنهاور، لطرح أسئلة حول الهوية والسلطة والمصير.
تتوزع الفعاليات بين معارض وعروض مسرحية وقراءات أدبية
رغم حصوله على جائزة نوبل للأدب عام 1929 عن روايته "بودن بروكس"، عبّر مان لاحقاً عن خيبته لعدم تكريمه عن أعماله الكبرى مثل "الجبل السحري". إلا أن تأثيره الأدبي تجاوز حدود ألمانيا، حيث أصبح مرجعاً لأجيال من الكتّاب والمفكرين من أمثال ألبير كامو وميلان كونديرا.
في إطار الاحتفالية، أطلقت الجهات الثقافية الألمانية موقعاً إلكترونياً بعنوان "مان 2025" يوثق جميع الفعاليات، بينما يحتضن متحف سانت آن في لوبيك معرضاً بعنوان "زمني: توماس مان والديمقراطية"، مستنداً إلى مذكراته التي نُشرت عام 1950، والتي توثّق رحلته الفكرية من المحافظة إلى الليبرالية.
وفي بادرة رمزية، ألقى الرئيس الألماني خطاباً في منزل توماس مان في لوس أنجليس، مؤكداً أن "إرث مان الفكري لا يزال ملهماً في عالم تتعرض فيه الديمقراطية وحقوق الإنسان لتهديدات متصاعدة".
تحولت ذكرى ميلاد مان إلى أكثر من مجرد احتفال بكاتب كلاسيكي، بل إلى لحظة استعادة وطنية لروح التنوير الألماني، وتجديد الثقة بدور الكاتب المثقف، باعتباره صوت مقاومة لا ينفصل عن هموم شعبه وعصره.