استمع إلى الملخص
- الكاتب يصف مشاهد من حياته اليومية، حيث يراقب نملة عرجاء ويسترجع ذكريات أصدقاء حميمين، محاولًا جمع شظايا أحلامه المبعثرة ليجد العزاء في عزلته.
- النص يعكس صراعًا داخليًا مع الفقدان والذكريات، حيث يتأمل الكاتب في مصير الأيام المتبقية، محاولًا الهروب من صمت موغل في الخيال، بينما يلاحقه صوت سيارة بعيد.
أضمُّ كفّيَّ وأعصرهما، كمَنْ يضمُّ لقيةً، يحسبُ أنّ انتظاره، لتَمنّ عليه ببلوغِ رجائهِ، لنْ يطولَ، فيقتادهُ سهوها لبهوِ نسيانٍ أليفٍ. هامساً بدعاءِ مظلومينَ ساهدينَ، أغمضُ عينيّ بقسوةٍ، في ظلمةٍ باردةٍ، فينزُّ ملحٌ حزينٌ من أركانِ ندائي، لقريبٍ يتراءى بكرسيّهِ العالي، في نهاياتِ قصصٍ يرتجلُ سرْدَها شيوخٌ شبّانٌ، في ليالي الخائفين.
دونَ ترتيبٍ، يتوزعُ ألمي في زوايا عتمةٍ مستعادةٍ من كتابِ "المصائب" أرافقها بعنايةِ مستجدٍّ، يظنُّ كائناتِ التعبِ هبات اللهِ لصمتهِ المسلوبِ من جسدِ أبٍ، ممدّدٍ في منزلٍ معزولٍ، يمقتُ الشتاءَ، ونهايتهُ يلمحها تصحو من نومٍ طويل.
أعصبُ رأسي بشالٍ بالغِ السوادِ، وأرقبُ نملةَ عطّارٍ عرجاءَ، يفشلُ في برئِها، فيبكي عجزَ حرفتهِ الموروثة. أتبعهُ، مأخوذاً بأمثولةِ درويشهِ، يجوبُ طرائقَ الليلِ في كتاب "الطيور" يفكُّ رطانتها بحلمٍ رسوليٍّ، كمْ كانَ عزيزاً بسرّيّته، ونافعاً لساهرينَ، يطلبونَ جواباً لا يُنهي عزلتَهم، موقنينَ من زائرٍ وَقورٍ يأخذُهم، بعيداً، في نزهةٍ أليمةٍ، يرونَ، عبر شاشتِها، أعمارَهم تمرُّ، محمولةً، مع أعمارِ أحبّةٍ، بعربةٍ وئيدة.
لم تكن تلك الغفوة الطويلة سوى أرق رافق هروبي من ملاذ موغل
بستارةِ الحلمِ أتشبّثُ، تسحبني همّةُ الصباحِ، تدفعني في أتونِ اليومِ، متحسّراً على أصدقاءٍ، كانوا حميمينَ للغايةِ، على غير العادةِ، في حلمي المنزوع. شرعوا يقصّونَ عليّ أحوالَ عالمٍ سفليٍّ، يمعنُ بعزلِ أرواحهم في ظلماتٍ موحشة. ظلّوا يبادرون، قبيلَ انتزاعِ الحلمِ، بنصائحَ تبعثرتْ في يقظتي المحشورِ فيها عنوة. حتّمتْ عليّ جمعَ شظاياها، لعلّ روحي تتدرّعُ بإحداها، حينَ تستحيلُ طائراً أخضر.
سأمحو أثرَ المارّةِ، لأستقلَّ طريقي بلا دليلٍ، وأستريحَ بظلِّ غيمةٍ، يدفعها ملاكٌ يتأفّفُ من نوبتهِ، يطاردُ كتلَ الغيمِ، يرصفها سقائفَ تقي فكرةَ الشمسِ، يكتمُ انزعاجَهُ من ريحِ الموتِ، تمرُّ إزاءَه، محمّلةً، صعوداً، لا تكلُّ عنِ الهبوب، تلفحهُ ذكرياتُ موتى باسلينَ، شدّتهُ، بينها، قصّةُ ملكٍ قديمٍ، يجثو باكياً، تعصرهُ لوعةُ الفقدانِ، يحثو على رأسهِ ترابَ الحزنِ، قبالةَ طيفِ صديقٍ وحيدٍ، يقصّ عليه أحوالَ أهلٍ تأبّدَ غيابُهم، فاقوا بُعيدَ الدفنِ، مُقمَّطينَ بأُزرِ الغيابِ، مكمّمينَ بألسنةٍ متيبّسةٍ، وشفاهٍ ثقيلةٍ، تماثلُ جفنينِ منْ صخرٍ، تحجرتْ عيناهما على حلمٍ وحيدٍ، عجزَ عن تدبيرهِ الملاك.
لم تكنْ تلكَ الغفوةُ الطويلةُ سوى أرقٍ، رافقَ هروبي من ملاذٍ موغلٍ في صمتٍ عاقرٍ، سيطمسُ أثري، قبل أنْ أتأملَ ما تبقّى من أيّامي، تناوبني سحب جثثِها بلا كللٍ، وتستظلّ، مثلي، يهندسُ أرقَها صمتٌ موغلٌ في تخيّلِ ما يدورُ بخاطرِ ملاكٍ يحرسُ غيمةً، تنمو زرقتها ببطء.
سيدهمُ سمعي هتاف سيّارةٍ، يطبلونَ، بعصيّ كظيمةٍ، تدوزنُ أصواتهم المبحوحةَ. نأوا قبلَ أنْ أُدركَ بُغيتهم، فظلّتْ أيديهم ترمقني، عن بعدٍ، تعلو وتهبطُ على طبولٍ سجينة.
* شاعر وكاتب عراقي مقيم في هولندا