وزنك إثبات على خطفك
غالباً، وفي سعينا المحموم لإظهار إنسانيتنا أو على الأقل بشرّيتنا، نعلن: الأطفال خط أحمر! لكن في جو مشحون بالاستقطاب وبصراع سرديات أصبح معضلة أخلاقية ووطنية، يُلحق الأطفال في أصعب ظروفهم وأبشعها وأكثرها خوفاً وخطراً بالجو العام من الإنكار والتلاعب بالسرديات وبلوم الضحية ومجتمعها وبيئتها.
بعد عودة الطفل المخطوف م.ح من أمام مدرسته وفي وضح النهار بمحافظة اللاذقية، خرق قاعدةٍ واهية تدّعي حماية الأطفال من دائرة العنف، لتتحوّل الطفولة وحقوقها الأساسية إلى مادة للاستباحة، متجاوزةً العدالة والأخلاق والتضامن الوطني بوصفها قيماً أساسية للعيش المشترك.
اللافت أن من أعلنوا تشكيكهم في رواية الخطف، من محامين ونشطاء ثوريين وشخصيات عامة ومثقفين، يدركون تماماً ما معنى التنمر وتبعاته القانونية والأخلاقية والإنسانية، وما يعنيه عدم تصديق الضحايا ولومهم بما يتنافى مع أسس العدالة ووسائل الدعم النفسي والصحي.
تخيلوا أن جهابذة "الدليل القاطع" تحولوا في لحظة إلى محققين ومدّعين وقضاة، واعتمدوا على وزن الطفل لإثبات نفي واقعة الخطف! وتوالت التعليقات الساخرة على وزن الطفل أثناء عودته، وكأن هذا المعيار البسيط يثبت أو ينفي حدثاً مأساوياً. السؤال الذي يطرح نفسه: هل قام أحدهم بقياس وزن الطفل قبل الخطف وبعده؟ إنه سؤال مؤلم، وتبقى الأجوبة المحتملة أكثر إثارة للسخط والغضب والرغبة في المواجهة المباشرة وجهاً لوجه، وليس عبر شاشة الإنترنت فحسب.
ثمة صورة مخيفة في أذهان الجميع، تتعلق بالطفل المخطوف وكأنه يجب أن يعود بوضع صحي سيء جداً، بين الحياة والموت
التعاطف البسيط، الذي يفترض أن يكون ردة فعل طبيعية أمام حادثة مؤلمة، تم وأدها بصورة عنيفة، ليس فقط بوصفها حالة رأي عام، بل بكونها قراراً جماعياً يميل إلى تجريم الضحايا، ظناً من المنخرطين أنهم بذلك يدعمون استقرار البلد أو الرواية الرسمية، التي لم تُصدر تصريحاً يتناسب مع مسؤوليتها في حفظ أمن الأفراد والمجتمع.
ثمة صورة مخيفة في أذهان الجميع، تتعلق بالطفل المخطوف وكأنه يجب أن يعود بوضع صحي سيئ جداً، بين الحياة والموت. لكن الحقيقة أنه لا أحد يعرف وضع الطفل أثناء الخطف سوى الطفل نفسه، وربما خاطفوه وأهله ورجال الأمن لاحقاً، الذين جميعاً اختاروا الصمت، إما رغماً عنهم أو استخفافاً بحق المجتمع وواجباته الرسمية.
في خضم كوميديا سوداء تنتج عن صراع السرديات، يظهر تناقض صارخ، كما عبر عنه قائد فرقة العراضة التي كانت في مقدمة مستقبلي الطفل المخطوف: "نحنا جاهزين لنعلن الفرح بحالات الخطف وبحالات النجاح وبكل الحالات!"، وكأن فعل الخطف أصبح يومياً على لائحة الاحتفالات، وعلى جدول الاستقطاب الحاد، وعلى قائمة تفاصيل مؤلمة تكفي لانهيار قيم المجتمع بأكمله، من التضامن إلى التخلي، ومن الحق في الحياة إلى انتهاك الكرامة والعدالة.
تهافت المنطق في مواجهة تهافت الضمير.
سلامتك يا بلد.