عن استحضار الأموية ومسارات الهوية الدمشقية

04 فبراير 2025
+ الخط -

إنّ من يدعو إلى استحضار ظلّ الدولة الأموية في دمشق، ويستدعي صورة الأمس في زمنٍ لا يشبه الأمس، هو كمن يُثري عطر الياسمين بعبق المسك، فلا الأوّل يأمن بقاءه، ولا الثاني يَحفظ نقاءه.

لئن كان العصر الأموي سِفرًا من سيوفٍ وانتصارات، فإن بين طيّاته سطورًا من دماءٍ وحسرات. فذاك الماضي، إذ يُستشهد به اليوم، يصبح موقدًا يشعل نار الفتن، ويوقظ عهد المِحن. وفي الشام، جسدٌ أثكله البلاء، وأحياءٌ فقدت أحياءها، ومستبدٌّ أحالها حُبلى بفِرقٍ وأحقاد، تهتاج بصليل الحديد، ولا تسكن إلا بروح العدل.

أيّها الحالم بعودة الأموية، هَب أنّ الزمان استدار بك إلى دمشق القرون الوسطى، أفتحكم الناس بسيفٍ ووعيد، بعد أن ذاقوا حلاوة الحرية، واستحالت أمامهم ألوان الاستبداد، ماضيًا يثقل الجسد وينهك الروح؟ ولئن كان في النهج الأموي ما يبهج القلب ببهاء المُلك والحضارة الممتدّة، فقد وُلِدَ في زمنٍ يستدعي الاقتتال والسيف، أمّا اليوم، إن نظرنا إلى ما صرنا إليه، فإننا لا نبتغي إلا ما يحفظ وحدتنا واستقرارنا، نحلم بدولةٍ فاضلة، وننتظر تشريعًا نكون فيه سواسيةً كأسنان المشط.

هل ترى الاستقرار في وصاية الجمع على البعض، وانفرادهم بمقاليد الحكم وإحياء روح القبلية والخلافة؟ ألا ترى أنّ تلك صورةٌ أخرى للاستبداد، يرتئي إليها بغير وعيٍ من ذاق مرارة العيش تحت وطأة الظلم، فصار سجين شعور الاستحقاق، ورفع مرآته ناظرًا إلى نفسه وماضيه، منفردًا عن الآخرين حوله، عاجزًا عن استبصار اعتلالات نفسه؟ كان حريًّا به أن ينظر لنفسه بإنصاف، فيراها بعين الآخر، دون أن يلوي عنق التاريخ ليخطف شعاراته؛ ففي ماضيه أمجادٌ تستحق اقتفاء الأثر، ومفاسد تستوجب استخلاص العِبر.

لا ترفع شعار الأموية سيفًا في وجه الآخر، فأنت بذلك تباعد بينك وبين ركب الحضارة، كما ينسلّ الماء بين الأصابع

هل تظن أنّ دول العالم تنام عن مجدٍ يُستعاد بالعقل، معتزِلًا عاطفة الجمع وغوغائيّته؟ انتصار الثورة أيقظ الأموية في نفوس الدمشقيين المتشوّقين لإحياء تراثهم ومعالم هويّتهم السابقة لعهد الاستبداد، والدمشقيّ بهذا يبني جسوره مع ماضيه بانتقائيةٍ وعقلانية. الدولة الأموية شمسٌ أشرقت في سماء التاريخ، فأَنضجت ثمرات العلم، وأسّست صروح الإدارة، فعلينا أن نرفع أبصارنا إلى ضيائها، لكن لا نعيد نقش ظلّها؛ فليس التراث وليمةً نأكلها لنُطلق سموم التفرقة، بل لوحةٌ نتمعّن بها لنُسائل ماضينا ونستقرئ مستقبلنا.

دع الشام تنهض من كبوتها بعصور الحرية والعدل، لا بعباءة الوصاية الغابرة. ولا ترفع شعار الأموية سيفًا في وجه الآخر، فأنت بذلك تباعد بينك وبين ركب الحضارة، كما ينسلّ الماء بين الأصابع.

أنس خرما
أنس خرمة
كاتب وخريج اقتصاد ورائد أعمال. سوري مقيم في الأردن وخريج جامعة اليرموك/ كلية الاقتصاد. مدير متجر متخصص في تقديم خدمات التصميم وصناعة العلامات التجارية. مهتم بالكتابة والتدوين، نشر مجموعة من المقالات في عدد من المواقع.