حينما تصبح الخيانة وجهة نظر!

29 نوفمبر 2024
+ الخط -

يقول المناضل الكردستاني غمكين كردستاني: "خيانة الوطن والشعب عمل شنيع ووضيع ويزداد شناعة ووضاعة عندما يتكالب الأعداء على الوطن والأمة".

في ظلّ النظام الدولي المعاصر الذي تتصارع فيه القيم بين الثابت والمتحوّل، وبين المطلق والنسبي، تتسرّب إلى الوعي الإنساني مفاهيم تُعيد تعريف المألوف وتُطوّع الحقائق وفق الأهواء والمصالح، وأحد هذه المفاهيم هو الخيانة، التي كانت يومًا وصمة عار تستوجب الإدانة، لكنها باتت في زمننا المعاصر تُقدّم أحياناً باعتبارها "رؤيةً مغايرةً" أو "اختلافاً مشروعاً"، وهذا ما برز خلال الأحداث الأخيرة في منطقة الشرق الأوسط (الحرب على غزة).

هذا التحوّل ليس مجرّد انحراف أخلاقي عابر، بل هو تعبير عميق عن أزمةٍ فكريةٍ وأخلاقيةٍ تُهدّد جوهر القيم الإنسانية. إذاً، كيف تتحوّل أفعال تُهدّم الثقة وتُنتهك فيها المبادئ إلى مواقف يُدافع عنها باعتبارها وجهات نظر؟ هل يكمن السبب في هيمنة النسبية الأخلاقية، أم في انحراف مسارات الحرية الفردية؟

كما تُثير هذه الظاهرة تساؤلات فلسفية جوهرية حول طبيعة القيم والمعايير التي تُوجّه السلوك الإنساني، فهل يمكن اعتبار الخيانة مجرّد حالة فردية، أم أنها تعكس انكسارًا جماعيًا يُعيد تشكيل المعايير الأخلاقية في ظلّ تحوّلات اجتماعية وسياسية واقتصادية معقدة؟

من خلال هذا المقال، نسعى إلى تفكيك هذه الظاهرة من منظورٍ فلسفي، مستعرضين كيف أنّ الخيانة حين تُبرّر باعتبارها وجهة نظر، فإنها تُفرّغ القيم من معناها، وتُعيد تشكيل الوعي الجمعي بشكل يتحدّى جوهر الإنسانية، فالخيانة في جوهرها هي انتهاك للثقة، سواء كانت ثقة فردية أو جماعية، إنّها حالة يتم فيها تجاوز الحدود الأخلاقية أو القيمية لصالح مصلحة شخصية أو رؤية بديلة. وعبر التاريخ، ارتبطت الخيانة بالعار والرفض، لكنها في عصرنا الحالي بدأت تكتسب أبعادًا جديدة، حيث تؤطر أحيانًا "حقاً في الاختلاف" أو "وجهة نظر مشروعة".

التأويل يتحوّل أحيانًا إلى أداة لتبرير الأفعال التي تتناقض مع المبادئ الإنسانية الأساسية

في الفلسفة الأخلاقية المعاصرة، يناقش فلاسفة ما بعد الحداثة، مثل فريدريك نيتشه وجان بول سارتر، النسبية الأخلاقية. فنيتشه يرى أنّ القيم تتغيّر مع تغيّر السياقات الاجتماعية والثقافية، ما يفتح المجال لتحويل أفعال مثل الخيانة إلى تصرّفات "مبررة" حسب السياق، كما يقول نيتشه: "ليست هناك حقائق أخلاقية مطلقة، بل تأويلات"، لكن هذا التأويل يتحوّل أحيانًا إلى أداة لتبرير الأفعال التي تتناقض مع المبادئ الإنسانية الأساسية التي لا ينتطح فيها عنزان.

أما سارتر، فيرى أنّ الحرية الفردية تتطلّب اتخاذ قرارات أصيلة ومسؤولة، ولكنه يحذّر من أنّ "الحرية دون التزام بالآخرين هي شكل من أشكال الخيانة للإنسانية". هكذا، تصبح الخيانة انعكاسًا لانعدام الشعور بالمسؤولية تجاه القيم الجماعية.

أحد أبرز الأمثلة على تحويل الخيانة إلى وجهة نظر يظهر في مجال الصحافة. ففي سياق الاحتلالات المعاصرة (الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية...)، قد نرى صحافيين يبرّرون الجرائم ضدّ الشعوب المحتلة بذريعة "الموضوعية" أو "الواقعية السياسية"، هؤلاء يُعيدون صياغة الرواية والسردية ليظهر الاحتلال ضرورةً تاريخيةً أو حقّاً مشروعاً للدفاع عن النفس، بينما تصوّر المقاومة عنفاً غير مبرّر.

على سبيل المثال، يمكن أن نجد صحافيًا يُبرّر سياسة الاستيطان في فلسطين، مستخدمًا مفردات مثل "إعادة الحق التاريخي" أو "الأمن القومي"، متجاهلًا الحقوق الأساسية للشعب المحتل، مثل هذا الخطاب يُخفي جريمة الاحتلال خلف ستار الحياد، ويحوّل الانتهاكات إلى "وجهة نظر".

الخيانة ليست مجرّد فعل فردي، بل هي انعكاس لأزمة أعمق في القيم الأخلاقية

مع صعود البراغماتية فلسفةً للحياة، أصبحت المصلحة الشخصية هي المحرّك الأساسي للأفعال، في هذا الإطار، قد تُعتبر الخيانة تصرّفًا "عقلانيًا" إذا كانت تخدم مصلحة الفرد أو تؤمّن له مكاسب مادية أو معنوية. في هذا السياق، يقول الفيلسوف الأميركي وليام جيمس، رائد الفلسفة البراغماتية: "الحقيقة هي ما يُثبت أنه مفيد لنا"! لكن هل يمكن أن تكون الخيانة مفيدة حقًا إذا كانت تقوّض المبادئ الأخلاقية التي تقوم عليها المجتمعات الإنسانية؟

في المقابل، قد يذهب البعض إلى القول إنّ الخيانة يمكن أن تكون وسيلة للثورة على نظامٍ قمعي أو غير عادل، لكن هنا يجب التمييز بين الخيانة للنظام الظالم، التي قد تكون أخلاقية ضمن سياق العدالة، والخيانة للقيم الجماعية التي تهدم النسيج الاجتماعي والأخلاقي، كما يقول الفيلسوف والناقد الثقافي السلوفيني سلافوي جيجك: "الثورة الحقيقية لا تأتي من تحطيم النظام، بل من إعادة تعريف ما نعتبره خيانة أو وفاء".

في الأخير، حينما تصبح الخيانة وجهة نظر، نشهد انهيارًا في القيم وتفكّكًا في المعايير التي تحافظ على المجتمعات من الانهيار، فالخيانة ليست مجرّد فعل فردي، بل هي انعكاس لأزمة أعمق في القيم الأخلاقية، يقول الإمام علي عليه السلام: "الخائنُ مَن شَغَلَ نفسَهُ بغَيرِ نَفْسِهِ، وكانَ يَومُهُ شَرّاً مِن أمْسِهِ".