الوعي السياسي... بوابة سورية الجديدة
عانت سورية لأكثر من نصف قرن من نظامٍ شمولي ديكتاتوري خنق أنفاسها وأغرقها في ظلامٍ سياسي واجتماعي، فانهارت القيم الوطنية وانتشرت الطائفية واعتُقلت الحرية، وقُيّد العقل، وأُغلقت منافذ الوعي في صندوقٍ مظلم أسموه كتاب القومية. وسط هذا الظلام، انطلقت الثورة السورية كصرخةٍ تُطالب بالحرية والكرامة، مُقدّمة تضحيات كبيرة، حتى أثمرت بانزياح عباءة الاستبداد الثقيلة التي خنقت البلاد لعقود.
ساهمت الثورة في فتح أبواب الوعي أمام المجتمع، غير أنّ هذا الوعي ظلّ في كثير من الأحيان محدودًا وسطحيًا، مقتصرًا على النخب المثقفة والفئات المعنية بالشأن العام، دون أن يتعمّق ليشمل الجوانب الأوسع من الفكر السياسي والاجتماعي والدولة.
واليوم تأتي المرحلة الانتقالية التي تعقب سقوط نظام الأسد وانتصار الثورة السورية بوصفها لحظة تاريخية فارقة. إنّها مرحلة استثنائية تُعيد للشعب حقّه المسلوب في بناء دولته على أسس العدالة والحرية، وتضع الجميع أمام مسؤولية استعادة الوعي السياسي الذي طالما كان غائبًا بفعل القمع والاستبداد.
سورية الجديدة ليست حلمًا بعيد المنال، بل هي حلم يتجسّد كلّ يوم بإرادة شعبها
فأكثر ما نحتاجه في هذه المرحلة، وللمستقبل أيضًا، نشر الوعي السياسي بين أفراد المجتمع، فهو صوت العقل الذي يرشد الشعب، ونبض القلب الذي يحفظ الأمل، وصيحة الفكر الذي يبني الوطن. سورية الجديدة ليست حلمًا بعيد المنال، بل هي حلم يتجسّد كلّ يوم بإرادة شعبها. وكما قال الفيلسوف السياسي جون لوك: "حيث تنتهي المعرفة، يبدأ الاستبداد".
الوعي السياسي مفهوم أساسي يمسّ كلّ فرد في المجتمع، إذ يعكس قدرة الإنسان على فهم القضايا السياسية، وتحليل الأحداث، وربطها بعضها ببعض للوصول إلى استنتاجاتٍ تمكّنه من اتخاذ مواقف مبنية على قناعاته الشخصية، التي تصحّح له مساره الوطني، وتجعل ممارسته السياسية والاجتماعية ممكنة. كما أنّ فهم القضايا السياسية وتحديد المواقف يدعمان الحوار بدلاً من النزاعات. هذا الوعي ليس مجرّد معرفة سطحية بالأحداث السياسية، بل هو عملية تراكمية تبدأ بالتعرّض للأخبار والتجارب وتنمو من خلال التعليم، والخبرات، والمشاركة في الأنشطة المجتمعية والسياسية.
سورية اليوم بحاجة إلى وعي سياسي يُعيد تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة على أسس جديدة من الشفافية والمشاركة. فلا يسمح لمكوّن خاص بالاستئثار بالسلطة وإخضاعها لتحقيق مصالح جزئية ضدّ المصالح العامة، ولن تُترك القرارات المصيرية بيد قلّة غير ممثّلة للشعب تتحكّم به.
فحين يدرك كلّ فرد حقوقه وواجباته، يتحوّل من متفرجٍ إلى صانعٍ للتغيير، ومن ضحية للاستبداد إلى حارس لمبادئ الحرية والعدالة. وهذا ما يمكّن الفرد من مراقبة أداء السلطات السياسية، والوقوف في وجه الاستبداد والفساد.
الوعي هو الحصن الذي يحمي الأوطان من طغيان السلطة، وهو القوّة التي تُعيد بناء الإنسان قبل بناء المؤسّسات
ففهم القضايا الوطنية، وتاريخ الأمة، وآليات عمل نظامها السياسي، يشكّل للفرد معرفة سياسية أساسية، يرافقها الإدراك النقدي الذي يُمكّن الفرد من تحليل الأحداث بوعي وتمييز الحقيقة عن التضليل، وهذا بدوره يعزّز الإدراك بالانتماء الوطني، حيث يشعر المواطن بمسؤوليته تجاه وطنه ويشارك في بنائه. والهدف من هذا كلّه قدرة الفرد على اتخاذ موقف سياسي مبني على الفهم الواعي للمصالح الوطنية والقيم الديمقراطية. وبذلك نبني منظومة متكاملة تُدعى الوعي السياسي.
فالوعي هو الحصن الذي يحمي الأوطان من طغيان السلطة، وهو القوّة التي تُعيد بناء الإنسان قبل بناء المؤسّسات. وعليه، إنّ غيابه يجعل من الشعوب فريسة سهلة لأيّ نظام يحاول إعادة تدوير الاستبداد تحت مسميّات جديدة.
وكما يقول المفكر الإسلامي مالك بن نبي: "مشكلات الشعوب تبدأ حين يغيب الوعي"
سورية التي دفع شعبها أثمانًا باهظة في سبيل الحرية تستحق أن تكون وطنًا تسوده العدالة والكرامة. فالوعي السياسي هو الأساس الذي يجب أن يُبنى عليه هذا الوطن، لأنه ليس مجرّد رفاهية فكرية، بل هو ضرورة وجودية لمواجهة تحديات المستقبل. ومن هنا، فإنّ المرحلة القادمة هي دعوة لكلّ سوري ليكون شريكًا في بناء الحلم الذي طال انتظاره.