الوجه الآخر للانتفاضة الإسبانية في وجه إسرائيل

18 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 16:07 (توقيت القدس)
+ الخط -

وسط صمت عربي مطبق حول المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة، وعدم اتخاذ أي نظام سياسي رسمي في الدول العربية أي خطوات أو إجراءات عقابية ملموسة ضد "دولة إسرائيل" بسبب قتلها ما يزيد على مائة ألف شخص فلسطيني في قطاع غزة المحاصر، خرج رئيس حكومة إسبانيا بيدرو سانشيز قبل أيام بتصريح ناري وبقرار جريء على المستوى الغربي والأوروبي ضد إسرائيل.

منذ بداية الحرب في غزة وطوال أيامها السوداء كانت المواقف الإسبانية الرسمية معادية للاحتلال، سواء على لسان رئيس الحكومة أو وزير الخارجية، وحتى وزراء آخرين ضمن الحكومة ونواب من البرلمان، إضافة إلى المسيرات والوقفات والاعتصامات المستمرة في برشلونة ومدريد وإشبيلية وبلباو وكل المدن الكبرى.

بالمقابل، من المهم جدًا، إدراك أن في إسبانيا أصوات أخرى، هي مع "إسرائيل"، خصوصاً في الأوساط اليمينية واليمينية المتطرفة، وداخل هياكل الدولة الإسبانية "العميقة"، ولا يمكن حصر عدد المؤيدين لإسرائيل الذين يناهضون قرارات الحكومة الحالية التي يرأسها الحزب الاشتراكي الشعبي.

ثمة سياقات جد أساسية، ولا بد من الانطلاق منها لتحليل أو محاولة فهم هذا الموقف الإسباني تجاه "إسرائيل"، ولا يمكن فصله عنها، مع الإشارة إلى أن هذه المواقف ذات المنحى التصاعدي هي ضمن سياق غربي شعبي يزداد عداءً لإسرائيل وللصهيونية.

ضرورة قراءة التاريخ لفهم الحاضر

والسياق التاريخي هو الأهم، وقراءة التاريخ هنا ليست ترفًا، بل ضرورة، وشهدت إسبانيا "المملكة" إبادة ممنهجة وأعمال تهجير وقتل وتعذيب ضد المسلمين عقب سقوط آخر حكم إسلامي "عربي" في مدينة غرناطة سنة 1492، وشهد القرن السادس عشر الميلادي هجرة قسرية كبرى لكل الأندلسيين ذوي الديانة المسلمة والأصول العربية والمغربية، وأعمال قتل وتعذيب أشرف عليها جهاز سُمِّي آنذاك بـ"محاكم التفتيش" تحت قيادة الملك فيرناندو، وبعده الملكة إيزابيلا والكنيسة، وبعد مائة عام أخرى من سقوط الأندلس بشكل تام، مع بداية القرن السابع عشر، ستفرض المملكة الإسبانية في ظل حكم الملك فيليب الثالث هجرة قسرية ثانية ضد أحفاد الموريسكيين الذين لا يربطهم بالعرب والإسلام سوى النسب وأطلال من التاريخ، وهذا الحدث التاريخي الضخم "سقوط غرناطة" لا تزال ارتداداته الحضارية والنفسية والاجتماعية تضرب في العمق الإسلامي والعربي، وكان حدثًا تأسيسيًا للاستعمار الأوروبي لكامل البلدان العربية.

بعد 530 عامًا من طردهم، اعتذرت إسبانيا لليهود السفارديم ومنحتهم الجنسية في 2015، بينما لا تزال عشرة ملايين من أحفاد الموريسكيين المسلمين ينتظرون نفس الاعتذار والاعتراف التاريخي

في ضوء هذا السياق، تبرز إسبانيا باعتبارها دولة مملكة آنذاك شبيهة بـ"إسرائيل الحالية" من ناحية ارتكاب جرائم إبادة وتهجير قسري ضد ذات الفئة البشرية "المسلمون والعرب"، لكن اللافت أيضًا تاريخيًا، أن التهجير القسري قبل 500 عام طاول حتى يهود الأندلس أو طائفة اليهود السفارديم، وتوزعوا على بلدان شمال أفريقيا وأجزاء من أوروبا بسبب "مرسوم الحمراء" الصادر عن الملكة إيزابيلا في 31 آذار/ مارس 1492، وبعد مرور خمسة قرون على الحدث، ستقدم المملكة الإسبانية سنة 2015 اعتذاراً تاريخياً رسمياً لليهود السفارديم الذين هم اليوم يتمتعون بالجنسية الإسرائيلية أو بجنسيات أخرى، ومنحت عبر قانون وطني الجنسية الإسبانية دون أن يتخلوا عن جنسياتهم الحالية، ورحبت إسرائيل بالاعتذار الرسمي الذي استفاد منه ما يناهز ثلاثة ملايين ونصف مليون يهودي، بينما لم تقدم مدريد حتى اللحظة الاعتذار نفسه للموريسكيين المسلمين وهم بأعداد تناهز عشرة ملايين أغلبهم يحملون الجنسية المغربية ثم الجزائرية والتونسية.

ولا تزال بعض الأوساط الإسرائيلية التي تروج دائمًا وتصنع كل يوم سردية جديدة وتختلق رواية عن المظلومية اليهودية، تذكر بالهجرة القسرية للسفارديم من الأندلس، بيد أن استخدام هذه السردية في المواجهة الحالية ضد مدريد لن يؤتي أكله كما يجب، لأنه تم تعويض من يجب تعويضه، وانفتحت إثر قرار الاعتذار والاعتراف لسنة 2015 ملفات أخرى، منها التعاون مع إسرائيل في قضايا الأسلحة والتجارة والسياحة والأمن، كذلك إن أدبيات الصهيونية حركةً وفكرةً وثقافةً عنصريةً نهلت الكثير من أساليب وأشكال القتل العمد والتهجير الممنهج الذي اعتمدته الكنيسة الكاثوليكية في إسبانيا قبل خمسة قرون، واكتفت الأوساط الصهيونية الإسرائيلية والأميركية بتوجيه تهم "معاداة السامية" للحكومة الحالية.

"مرسوم ملكي".. عبارة ذات ثقل دستوري، سياسي واجتماعي

خلال إعلان مدريد الأخير حول حظر بيع الأسلحة وقطع غيار الأسلحة ومنع رسو السفن، كانت لافتة عبارة "عبر مرسوم ملكي"، ولم تُستخدم عبارة "قرار حكومي"، وهذا الاختلاف جوهره دستوري وقانوني ذو أثر سياسي ودبلوماسي، وليس صدفة إعلان "مرسوم ملكي"، أي إن الملك فيليب السادس الذي بحكم الدستور الإسباني يسود ولا يحكم، هو من أصدر المرسوم، وبالتالي فالملك الإسباني يوافق ضمنيًا على قرارات الحكومة ويصدر أمرًا سياديًا قد ينهي سنوات من التعاون الأمني والعسكري والتبادل التجاري في الأسلحة والعمل المشترك في حوض المتوسط.

من جهة أخرى، فإن المرسوم الملكي الإسباني المتعلق بإيقاف تجارة الأسلحة، سيؤثر أكثر في داخل المجتمع الإسباني، وإذا كانت مجرد خرجات المسؤولين الحكوميين وتصريحاتهم قد أحدثت حالة من العداء والاستهجان المجتمعي لإسرائيل، فإن قرارات الدولة العليا تعزز هذا العداء ويصبح مؤسسًا، ولعل إيقاف طواف دولي للدراجات في قلب مدريد بسبب مشاركة إسرائيليين خير مثال على ذلك، إضافة إلى طرد مواطنين إسبان سياحًا إسرائيليين من المقاهي والمطاعم في بعض المدن، على اعتبار أن الشعوب تسيّسها السلطة الحاكمة.

تبادل تجاري سائر في التدهور

من المحتمل أن يؤدي المرسوم الملكي المتعلق بتوقيف تجارة الأسلحة مع إسرائيل إلى خطوات قانونية أخرى متعلقة بالاقتصاد المدني والسياحة والتبادل التجاري. وبحسب الأرقام الرسمية، فإن قيمة الصادرات الإسبانية لإسرائيل بلغت 109 ملايين يورو في حزيران/ يونيو 2025، فيما استوردت من إسرائيل ما تبلغ قيمته 70.6 مليون يورو، وهو رقم منخفض مقارنة بالسنة السابقة 2024 حيث كانت قيمة الصادرات 148 مليون يورو، ما يعني انخفاضًا بنسبة 26 بالمائة، وعلى مدار السنوات الخمس الماضية، انخفض حجم التجارة بمعدل سنوي قدره 1.42 بالمائة.

بالنسبة إلى إسرائيل "حكومةً وشعبًا"، فإن إسبانيا بلد مهم من ناحية الاقتصاد والتجارة، حيث توجد أزيد من 135 شركة ناشئة إسرائيلية داخل إسبانيا تشتغل في مجالات التكنولوجيا، والسياحة، ومن ناحية ضمان انتظام سلاسل التوريد القادمة من الولايات المتحدة وبريطانيا، فالمنفذ الجغرافي الوحيد من المحيط الأطلسي نحو إسرائيل هو مضيق جبل طارق الواقع تحت سيطرة بريطانيا منذ قرون، وأي محاولة دولية قانونية قد تتبناها مدريد لإغلاق هذا المضيق في وجه "إسرائيل" سيعني الكارثة الاقتصادية حرفيًا وتهديدًا للوجود.

هل تفتح مدريد صفحة تاريخية جديدة؟

لا بد من إدراك أن قرار الدولة الإسبانية بتعليق تجارة الأسلحة ومنع رسو السفن المحملة بالأسلحة نحو موانئ إسرائيل، لا يزال لم يخرج عن إطار دعم دولي للقضية الفلسطينية محصور في "دولة فلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية"، أي إن مدريد ستبقى على تعامل دائم مع إسرائيل، وهذه الأخيرة ستتجه عملياً إلى تعزيز علاقاتها مع دول أو "حلفاء جدد" كالمغرب لتعويض ما يمكن أن يحدثه المنع والحظر الإسباني على المدى القريب والمتوسط.

إن اختزال هذا الدعم الإسباني السياسي للقضية الفلسطينية في كونه مرتبطاً بحزب اشتراكي يساري، يكشف عن قصور معرفي بطبيعة إسبانيا ومجتمعها ككل، فهذا المجتمع استطاع التحول جذرياً على المستوى الداخلي بعدما أكلت منه الحرب الأهلية الكثير وأسقط نظام الكنيسة والملكية المطلقة المتطرف، وأسقط نظامًا عسكريًا ديكتاتوريًا، كذلك فإن حركاته الاجتماعية السياسية والثقافية لها امتداد جغرافي يصل إلى قلب الولايات المتحدة النابض، ودول أميركا اللاتينية، ولا يتوقع أن تكون سلسلة القطيعة المتواصلة مع "إسرائيل" لحظية فقط، بل ستستمر وإن انتهت الحرب.

إن المرسوم الملكي الإسباني صحيح أنه يعبر عن غضب حقيقي وجاد من مدريد حيال الحرب الإبادية في فلسطين وفي كل الشرق الأوسط، لكنه لا يعفيها من مسؤولية تاريخية بحجم قرون من الزمن لا بد أن تعترف بها، وأن تقدم اعتذارًا وندمًا حقيقيًا على ما أقدم عليه أسلاف الملك فيليب السادس في حق المسلمين العرب بالأندلس، ومن الضرورة القصوى لمدريد أن تربط نصرتها للقضية الفلسطينية الحالية على أرض الواقع بخطوات ستقلب بلا شك صفحات من عمق التاريخ البشري في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط.

كاتب صحفي مغربي وباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بسلك الدكتوراه بكلية أكدال الرباط.
أيمن مرابط
كاتب صحفي مغربي وباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية بسلك الدكتوراه بكلية أكدال الرباط.