الخيانة "الموضوعية": أساس إعلام ما بعد الإنسانية
في القرن العشرين، ومع ازدهار الصحف وظهور التلفزيون، سادت تصوّرات راسخة تُلزم وسائل الإعلام بثلاثية: الحياد، والموضوعية، والمصداقية. ولكن سرعان ما أُقصي "الحياد" من هذه المعادلة، وبقيت بعض وسائل الإعلام تتغنّى بالموضوعية والمصداقية بوصفهما قيمتين مركزيتين، تُجسَّدان في التحليل والتقرير، وتظهران في عناوين باهتة لا طَعم لها ولا رائحة.
لكن سِمة "الموضوعية"، التي رُفعت شعارًا لعقود، وقعت تحت اختبارات حقيقية وصعبة. أبرز تلك التحديات جاء من جمهور هذه الوسائل ذاتها، جمهور بدأ يرى في "الموضوعية" اصطدامًا صارخًا مع حقوق الإنسان وكرامته، بل وتواطؤًا غير مباشر ضدّ الضحية. إذ كيف لوسيلة إعلام أن تتغنّى بالموضوعية بينما يتعرّض جمهورها للجوع والحصار وانتهاكٍ صريح لحقوقه؟
في مثل هذا السياق، تصبح "الموضوعية" عبئًا أخلاقيًا، وتغدو مراجعة المعايير الإعلامية ضرورة لا ترفًا، لأننا نعيش زمنًا لم تعد فيه الموضوعية قابلة للتطبيق، وصار الالتزام بالمصداقية هو الأساس الذي ينبغي أن يُبنى عليه الخطاب الإعلامي.
نعيش زمنًا لم تعد فيه الموضوعية قابلة للتطبيق، وصار الالتزام بالمصداقية هو الأساس الذي ينبغي أن يُبنى عليه الخطاب الإعلامي
تحوّلت وسائل الإعلام، شاءت أم أبت، إلى معسكرات إعلامية تستقطب جمهورًا خاصًا بها، نشأ على خطابها وتربّى على لغتها. هذا الجمهور بات يمجّ الخطاب "الموضوعي" المُصطنع، وفي زمن الإعلام التفاعلي، يطالب وسيلته الإعلامية بأن تخلع هذا الرداء الضيّق الذي يعوق حركتها ويشلّ تقدمها. والمقصود هنا ليس الانزلاق نحو خطاب شعبوي مبتذل، بل أن يكون الخطاب أكثر صدقًا ووضوحًا، فلا حياد أمام قتل إنسان، ولا موضوعية عند امتهان كرامة امرأة تُسحل في الشوارع.
الموضوعية لا تعني الشعبوية
من الأخطاء الشائعة التي يقع فيها كثيرون، الاعتقاد بأنّ التخلّي عن الموضوعية يعني حتمًا السقوط في الشعبوية. وهذا خطأ فادح. فالانسلاخ عن الموضوعية لا يعني بالضرورة تبنّي خطاب غوغائي متفلّت، بل قد يعني الانحياز لمشاعر الناس وقضاياهم، ومخاطبة وجدانهم. لقد أصبحت الموضوعية، منذ أن اعتُمدت بديلًا عن الحياد في العقود الثلاثة الأخيرة، عاجزة عن تلبية تطلعات الجمهور، وأسهمت (بشكل غير مباشر) في تطبيع المشاهد اللاإنسانية التي تعرضها النشرات والتقارير الإخبارية يوميًا.
تلك المشاهد المروّعة عادةً ما تُقدَّم بلغة محايدة وبنبرة رتيبة تُقلّل من هول الفاجعة، وتُطفئ حرارتها في قلب المتلقي. وهذا أمر يجب رفضه تمامًا، لأنه يُفسد الوعي ويُخدّر الإحساس.
كوارث تسبّب بها الطرح "الموضوعي"
الانسلاخ عن الموضوعية لا يعني بالضرورة تبنّي خطاب غوغائي متفلّت
فإذا كانت المعايير الصحافية تصطدم بقيمنا الإنسانية، فينبغي عدم الالتزام بها. والأسوأ أنّ هذه المعايير (عدا المصداقية) غالبًا ما تساوي بين الجلاد والضحية، أو تميل لأحدهما ميلًا خجولًا لا يُذكر ولا يُشكر.
المصداقية: العمود الأخير
هذه القيم التي استوردناها من النموذج الغربي، والذي يتخلّى عنها متى شاء، آن الأوان أن نُعيد تقييمها بما يتناسب مع قيمنا العربية والإسلامية، الأصيلة في جوهرها، والغنية في دلالاتها. المصداقية برأيي هي العمود الفقري الذي ينبغي أن تقوم عليه الوسيلة الإعلامية. فالجمهور لا يقبل الكذب، حتى إن كان يخاطب مشاعره، لكنه بات يرى في "الموضوعية" كما تُمارَس اليوم محاولة لتمييع ما لا يجوز تمييعه، وتخديرًا لا واعيًا لجمهور أنهكته الكوارث.
لقد كشف الاستقطاب الحاد في المشهد الإعلامي عن كوارث ارتكبتها "الموضوعية" باسم المهنية، بدءًا من الطرح الباهت لمعاناة المحاصَرين والجوعى، وصولًا إلى خطاب تلميعي يقتل الحماسة، ويقنع الجمهور بالتعايش مع الرعب.
إنّ المشاهد التي تقشعر لها الأبدان، حين تُعرض على الشاشات، لا بُدّ أن يصاحبها خطاب غير حيادي، خطابٌ صادق، واضح، لا يُخادع ولا يُجامل. حان الوقت لأن يكون الإعلام رأس حربة لا لسانًا خجولًا، وأن يتخلّى عن الغطاء المُحايد حينًا، والموضوعي حينًا آخر، فكلا الغطاءين بات مثقوبًا في عالم مثقوبٍ أصلًا في عدالته وإنسانيته. المصداقية، وحدها، هي ما يُميّزنا عن خطاب أعدائنا.