الجهادية مذهب إنساني!

10 يناير 2025
+ الخط -

سبحان اللّه! صدّق أو لا تصدّق! بعد أكثر من عشرين سنة من "حرب على الإرهاب" شنّها الغرب، وتمّ بذريعتها تدمير بلدان واحتلالها، فانهارت دول، وتفسّخت مجتمعات، نكتشف اليوم، مدهوشين، أنّه يبدو أنّ هناك جهادية "سيئة"، وأخرى "جيّدة"، ولا سيما بنظر الغرب.

المقصود هنا بالجهادية ليس الإسلاموية، فليس كلّ الإسلاميين (وليس كلّ الحركات الإسلامية المقاتلة) جهاديين. فعلي عزت بيغوفيتش مثلا، وأبو الحسن بني صدر، ومحمد مرسي، كانوا إسلاميين، ولكنهم لم يكونوا جهاديين؛ ورجب طيب أردوغان هو أيضا إسلامي، وليس جهاديًا، ومثال على أنّ "إسلامي" لا يتعارض حكمًا مع "علماني"، ودليل على تهافت ثنائية إسلامي/علماني في بعض الأحيان. 

بالعودة إلى الجهادية، يبدو أنّ الجهادية تكون سيئة، مُخيفة، مُرعبة، مُدانة، تستوجب صدور قرارات عن مجلس الأمن بسرعةٍ فائقة، وتشكيل تحالفات دولية لضربها واجتثاثها، عندما تهاجم الغرب، وتعرّض مصالحه للخطر فقط. أما عندما تلتقي مصالح الغرب مع مصالح حركات جهادية، عندئذ تصبح الجهادية أمرًا فيه وجهة نظر، مقبولًا، لا بأس به، لا بل أمرًا جيّدا. 

بعيدا عن القراءات الثقافوية، من المؤكّد أنه لا يمكن تناسي المُسببات السياسية التي تفسّر ظهور هذه الحركات الجهادية، ولا سيما الغزو والاحتلال الأميركيين للعراق، ناهيك عن دور النظام البائد في سورية الذي كان ولّادا لهذه التنظيمات (انسداد الأفق السياسي وعدم إمكانية تداول السلطة، ناهيك عن أنّه كان كالإطفائي الذي يدمن إشعال الحرائق)، في حين أنّه كان يتم التسويق له، بكثير من النفاق، على أنه الحصن المنيع بوجه التطرّف. ولكن، بالمقابل، لا يمكن استعمال التفسير للتبرير، وإلا أدى ذلك إلى وصم المسلمين أنفسهم بأنفسهم بهذا الفكر وما ينتج عنه.

سردية التحوّل 

ألا ترون كيف استبدل عباءته ببنطلون؟ ألا تلاحظون كيف استبدل عمامته بتسريحة شعر؟! لقد تخلوا عن كنياتهم الجهادية وعادوا لأسمائهم! إنّها من العلامات الكبرى للتحوّل، التي تخطّت حتى خيال فرانز كافكا في روايته الشهيرة "التحوّل"! يُراد لنا أن نقتنع أنّ من يغرقون في دوغمائية فكر أبي الأعلى المودودي (صديق روح اللّه الخميني)، معطوفًا على فكر سيد قطب، معطوفًا على فكر محمد عبد السلام فرج، معطوفًا على فكر أبي محمد المقدسي، معطوفًا على فكر أبي بكر ناجي، معطوفًا على فكر أبي مصعب السوري (ومعدّلا به)، معطوفًا على فكر أبي عبد اللّه المهاجر، معطوفًا على فكر من شاكلهم من أصحاب هذا الفكر "الليّن السمح"، يتحوّلون بين ليلة وضحاها إلى براغماتيين. 

يُراد منا أن نسلّم، دون نقاش، بأنّ من كان البارحة يقول بالجهاد العالمي، من بايع في الماضي الظواهري، و/أو الزرقاوي، و/أو لا البغدادي، من قاتل من أجل قيام "دولة الإسلام" في "أرض الإسلام" الواسعة، من ناضل من أجل عودة دولة الخلافة على منهاج السلف في كلّ العالم الإسلامي، من كان البارحة يعتبر أنّ حدود الدول في العالم الإسلامي طاغوت، وأنّ الديمقراطية طاغوت، أصبح، بين لحظة إقليمية وأخرى، حركة تحرّر وطني، تريد نشر الإخاء والإلفة والعدل والحرية والسلام في ربوع بلده؛ لا بل ويُطلب منه، ولا سيما من قبل الغرب، لإكمال هذه المشهدية من النفاق الأخلاقي والعبثية السياسية، ضمان حقوق الإنسان وحقوق الأقليات! 

عندما تلتقي مصالح الغرب مع مصالح حركات جهادية، عندئذ تصبح الجهادية أماً فيه وجهة نظر، مقبولاً، لا بأس به، لا بل أمرًاً جيّداً

وماذا عن الانتهاكات ضدّ المدنيين في العراق وسورية، التي قامت بها هذه المجموعة، غالباً بسبب الانتماء الطائفي وماذا عن المظاهرات التي تمّ قمعها بعنف ودموية في إدلب هذا العام بالذات؟ وماذا عن كلّ الانتهاكات لحقوق الإنسان التي ارتكبتها الجهادية، ولا سيما خلال العقد الماضي، مما جعلها تقترب أحيانًا من مستوى وحشية طاغية الشام المخلوع مع حلفائه الذين، بالمناسبة، كثيرون منهم لا يقلون جهادية، ولكن بنسخة "ولاية الفقيه" الخمينية؟ وماذا عن المدرّس الفرنسي صاموئيل باتي مثلا، الذي تقول الصحافة الفرنسية أنّه من المحتمل أن يكون قاتله مرتبطًا بهذه الجهادية، تحديدًا في سورية؟  كيف لنا أن نتجاهل كلّ هذا السجل الرائع؟ حسنًا، حسنًا، يُقال لنا من خلال صورة الوفود، ولا سيما الغربية، المتنافسة لزيارة أركان السلطة الجديدة في سورية: نعلم أنّ هذه الجهادية خطيرة، ولكنها... مفيدة لنا الآن! 

تشكل نظام إقليمي إسرائيلي في الشرق الأوسط

نكتفي بهذا القدر من التهكّم المقصود منه إظهار عبثية المشهد العام. فغالبًا، لم يسمح الغرب لنظام الطاغية بالبقاء لأكثر من ٥٠ سنة، إلا لأنّ أمن اسرائيل أغلى بالنسبة إلى الغرب من حرية الشعب السوري، ولم يتأخر الغرب (13 سنة طويلة ورهيبة بعد بدء الثورة) بالقبول أخيرًا بإسقاط نظام الطاغية في ظرف أيّام قليلة، إلّا لأنّ أمن إسرائيل أغلى بالنسبة إليه من حرية الشعب السوري. غالبًا، ليس من أجل الشعب السوري قد سُمح أخيرًا بإسقاط النظام المجرم، بل لأنّ دور هذا النظام قد انتهى في حماية أمن إسرائيل. فعلى وقع حرب الإبادة الدائرة في غزّة منذ خريف 2023، ثم حرب الشهرين في لبنان في خريف 2024، يتشكّل نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، هدفه ضمان حماية أفضل لأمن إسرائيل. إنّه عصر النظام الإقليمي الإسرائيلي في الشرق الأوسط، وهو ما يعترف به مثلا الباحثان الإسرائيليان، المنتميان للأستبلشمنت الأمني العسكري الإسرائيلي، آموس يادلين وأفنير غولوف، في مقالهما بعنوان "نظام إسرائيلي في الشرق الأوسط"، المنشور في مجلة فورين أفيرز الأميركية بتاريخ 17/12/2024. في هذا النظام الإقليمي الجديد، لم يعد الأسد وأمثاله مفيدين في أداء مهمة حماية أمن اسرائيل. في هذا النظام الإقليمي الجديد، الذي يجعل من الشرق الأوسط تحت الهيمنة الإسرائيلية، لا بُدّ من "تصفية" القضية الفلسطينية، مع إعطاء إسرائيل (رأس حربة الغرب في المنطقة) "حرية الحركة" والتوسّع في بلاد الطوق، والقيام بهجمات في الدول المجاورة وما بعد بعد المجاورة، لتأديب كلّ من يتجرّأ على التمرّد على "العصر الإسرائيلي" في المنطقة، وذلك بإفلات تام من العقاب.

يتشكّل اليوم نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط، هدفه ضمان حماية أفضل لأمن إسرائيل

في السياق، حتى لو أنّ المقارنة دونها عقبات، إلا أنّه من الصعب عدم تقريب ما يجري اليوم، مما جرى في مرحلة الثورة العربية الكبرى سنة 1916، أي في خضم الحرب العالمية الأولى التي كانت الدولة العثمانية طرفًا فيها، ما جعل ممكنًا عندئذ تحقيق سايكس بيكو عبر سان ريمو، فزرع دولة إسرائيل في المنطقة. وقتها، أي في بدايات القرن العشرين، كان النفور التركي العربي (ولا سيما بسبب سياسة التتريك، واستبداد جمعية الاتحاد والترقي الحاكمة) هو خطّ الصدع الذي سمح بتحقق ذلك. اليوم، في بدايات القرن الواحد والعشرين، ما يسمح بتحقّق الشرق الأوسط الإسرائيلي الجديد (تحت الهيمنة الإسرائيلية) هذا، هو الكراهية بين الشيعة والسنة؛ ومحور الممانعة بقيادة إيران هو أوّل من يُسأل عن ذلك، ولا سيما بسبب دعمه لنظامٍ استبدادي مثل نظام الأسد. اليوم، لا يمكن لأي حدث (على تاريخيته وأهميته) أن يعمي عن رؤية الصورة الكبرى والكاملة حول هذا الواقع الاستراتيجي الجديد، دون أن يعني ذلك إطلاقا أنّ النظام البائد (ورعاته الإقليميين) كانوا سدًا منيعًا بوجه إسرائيل، أو أنّه ما كان يجب أن يسقط هذا النظام، أو أنّ رعاته الإقليميين "بريئين" ممّا حدث ويحدث.

في السياق، لا يمكن إلا استهجان المعايير المزدوجة التي تعتمدها إيران وأدواتها لمقاربة ما يحصل في المنطقة. فبالنسبة لمحور الممانعة، من "الحلال" أن تستغل ميليشياتهم، اعتباراً من أغسطس/ آب 2014، ضربات التحالف الدولي ضدّ داعش، لتنفيذ توسّعها في العراق وسورية، وفرض تغيير ديموغرافي عللى أساس طائفي في مناطق واسعة من المنطقة؛ لكن "حرام" أن تستغل الفصائل السورية اليوم ضعف إيران والميليشيات التابعة لها بفعل الضربات الإسرائيلية خلال الأشهر الماضية، للتقدّم من شمال سورية. بالنسبة لمحور الممانعة، إنّ احتفاظ النظام السوري لأكثر من خمسين عاماً بحقّ الرد على إسرائيل، على الرغم من احتلال الجولان، يشكّل جزءاً من "الصبر الاستراتيجي"؛ ولكن عندما يجرؤ السوريون على محاربة هذا النظام الاستبدادي، فإنهم يُتهمون بأنهم "عملاء للصهيونية والإمبريالية". 

يحزّ في النفس أن يكون حقّ شعب بلد عربي بالحياة، وبالحرية، أمراً عرضياً، جانبياً، ثانوياً جداً، ولا سيما بالنسبة للغرب، أمام أمن إسرائيل

وبالمقابل، لا تقلّ نفاقًا المعايير المزدوجة التي يعتمدها جزء كبير من الغرب في ما يتعلّق بما يحدث في المنطقة. فبالنسبة لهذا الغرب، الإسلاميون الذين يخوضون حربًا ضدّ إسرائيل في الأراضي الفلسطينية التي تحتلها، هم "إرهابيون" يجب "تطهير" غزّة منهم؛ ولكن الجهاديين (الذين هم إيديولوجياً على يمين يمين الأُوائل)، الذين يسقطون نظاماً دكتاتورياً في دولة مجاورة، هم أبطال الحرية. بالنسبة لهذا الغرب، إنّ تحالف الإسلاميين الفلسطينيين مع إيران ضدّ الاحتلال الإسرائيلي هو أمر مستهجن ومرفوض؛ ولكن لا مشكلة في تحالف فصائل جهادية في سورية مع تركيا من أجل تحقيق مصالح جيوسياسية يمكن للغرب (ومن ضمنه إسرائيل) أن يستفيد منها. بالنسبة لهذا الغرب، من الضروري إيجاد حلّ عادل للصراع السوري على أساس قرارات مجلس الأمن الدولي؛ في حين أنّ ديناميكية التطبيع، ولا سيما ما يرافقها من إطفاء للقضية الفلسطينية على حساب حقوق الشعب الفلسطيني، يجب أن تحلّ عمليًا محلّ الحل العادل على أساس القانون الدولي وقرارات المجلس نفسه.

بالمحصلة، لا يمكن إلا تهنئة الشعب السوري، وأنفسنا، وكلّ من عانى الأمرين من نظام طاغية الشام، ولا سيما في البلدان المجاورة، وتهنئة كلّ أحرار العالم، بسقوط نظام الأسد. ولكن يحزّ في النفس أن يكون حقّ شعب بلد عربي بالحياة، وبالحرية، أمرًا عرضيًا، جانبيًا، ثانويًا جدًا، ولا سيما بالنسبة للغرب، أمام أمن إسرائيل. من المؤسف أيضاً ألا يُسمح أخيراً بتحرير شعب من نير أسوأ أنواع الأنظمة القمعية (بطل نظرية "تحالف الأقليات" العنصرية والإقصائية والإجرامية) إلا على يد جهاديين. ففي سورية اليوم، المسألة تتخطّى ثنائية علماني/إسلامي: ليست المشكلة في أنّ أبا محمّد الجولاني (أحمد الشرع)، وهيئة تحرير الشام إسلاميون، بقدر ما هي، بشكل رئيسي، في أنّهم جهاديون، ومن المشروع التساؤل عما إذا كانوا يتصرّفون على أنهم أصبحوا اليوم، بعد سقوط طاغية الشام، في مرحلة "شوكة التمكين"، وهي المرحلة الثالثة والأخيرة من الجهاد، وذلك بحسب المنظّر الجهادي أبو بكر ناجي في كتابه "إدارة التوحش".