أيتها البلاد

27 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 14:39 (توقيت القدس)
+ الخط -

بما أنها نهاية مرحلة من تاريخنا، فوداعاً. وداعاً أيّتها البلاد التي كانت "شيئاً ما" قابلاً للنمو بالاتجاه الصحيح. أملاً، ولو بعيداً، بحياة ومستقبل كريمين. لكنها عادت لتصبح، على الرغم من كلّ تضحياتنا: مهزومة، مدعوسة تحت أقدام الفاسدين الوقحين والعملاء الأوقح، كسالى العقول والقلوب والضمائر. منهوبة، مُمزّقة القلب كأم بين أولادها، يائسة من اتفاقهم على ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم. مُستسلمة، لا تستطيع نصرة أحد على أحد منهم. 

وداعاً، يا من صرت هباءً منثوراً. دخاناً، رماداً بعد حريق، أنقاضاً مكوّمة كما بعد حدوث زلزال لم تنزله بك الطبيعة إشفاقاً، لأنّ زلزال كينونتك، صدعك الطبيعي، كان كافياً لتدميرك. ليت الطبيعة لم تشفق، فهزّت كلّ هذا الخراب كي يسقط أخيراً. ليغسل وجه المكان ويعده ببداية جديدة، مختلفة، لا بُدّ منها. ليكشط كلّ هذه الغرغرينا ويبتر الأعضاء الفاسدة التي تسمّم بقية الجسد. ليت بركاناً ثار فيك وسالت حممه علينا لتُحيلنا مومياوات حجرية، تماماً كما حصل لمدينة "بومبيي" الإيطالية، لينتهي كلّ هذا فتولّدين فرصة لمن بقوا على قيد الحياة. أتخيّل طمي الحمم البركانية الذائبة يسيل ببطء ويغمرنا، ثم يكتشفونا بعد سنين في أوضاعنا الحالية، وكلّ متشبّث بهُويّته الطائفية. لا دروز ولا موارنة، لا سنة ولا شيعة ولا كلدان ولا أشوريين ولا كنعانيين ولا فينيقيين ولا ساميين ولا لاساميين. أما الناجون، فبضعة أشخاص فقط. نوع من سفينة نوح لبنانية. بذرة تتفتّح بعد حين برعماً أسفل شجرة محترقة.

اليوم لسنا في أي مكان. الجغرافيا، أقصد منها اليابسة، واسمها من المفروض أن يدل على ثباتها وتماسكها، في حالة من السيولة. مد وجزر كما لو كانت بحراً يخضع لحركة الكواكب، للقمر والشمس. جغرافيا بحجم نقطة على الخريطة، لكنها تحوي في حجمها المُتناهي الصغر ذاك ما لا تطيقه أوسع جغرافيا في الأرض من تناقضات. نوعاً من ذرّة، لو تنشطر ستحدث دماراً عظيماً. 

من نحن لنكون فيك أيتها البلاد؟ وهل نعرف نحن من نحن؟

الأخطاء القاتلة، الغضب، الخوف، الخيانة، الكراهية، الابتذال، الوقاحة، النفور، الانقسام، التشرذم، التشتّت، كلّها عناوين صالحة لوصف سمات هذه المرحلة. أما التشويش في العقول والقلوب؟ فهو سيّدها. أرانا في حالنا هذا كمن يتلقى ضربات متلاحقة على رأسه. ما إن يحاول أن يتماسك مُتحسّساً مكان الضربة لمداواتها، حتى تأتيه التالية. عيوننا زائغة وبنا غثيان. قد يكون نزيفاً داخلياً أو عوارض جلطة في المخ. هكذا قد يشخّص الأطباء. هو النزيف القديم المزمن المُزداد سرعةً في التدفّق. نزيف تسرّب من شرايين البلاد، من دوالي الروح المُزرقّة. ينبجس الدم من انتفاخها وعدم قدرتها على تحمّل كلّ هذا الضغط. 

أَنَهوي في بئر لا قاع له؟ أم نتخبّط في رمال متحرّكة تبتلعنا بقدر ما نتحرّك محاولين الخروج؟ كلّما تخبّطنا، غرقنا أكثر، اختنقنا أكثر، متنا أكثر. 

نحن في "مكان ما". مكان كنا نعلم أنّنا ننجرف إليه بقوّة دفع الجموع المُتخبّطة، لكننا لا نعرف ما هو بعد. لم نرس على بر. مكان ليس وطناً وليس ملاذاً وليس حتى يابسة نقف عليها. انزلقت تربة الوطن، ونحن نهوي ولم يستقر بنا المطاف بعد. 

ها نحن نهوي، ننظر إلى فوق، فتلوحين لنا في البعيد أيتها البلاد

ها نحن نهوي، ننظر إلى فوق، فتلوحين لنا في البعيد أيتها البلاد. في الفتحة التي انزلقنا منها. تبتعدين وتصغرين كلّما هوينا، لتصبحي نقطة متلاشية في الذاكرة المثقوبة. 

حدّقنا كثيراً في هذه الهاوية بدلًا من أن نبني جسراً لنا ولأهلنا لنعبر فوقه. حدّقنا حتى هوينا. جذبتنا كما يجذب السراب التائهين في صحراء الهوية. 

من نحن لنكون فيك أيتها البلاد؟ وهل نعرف نحن من نحن؟

انزلقتِ من أيدينا أم انزلقنا منك؟ صرت بأيد بعيدة، لا نعرف من يحكم قبضته عليك أو على بقية الخريطة. بعيدة كماض ظننا أنّنا نتحكّم بمستقبله، أو نستطيع على الأقل، لو حاولنا. 

يا للوهم الجميل الذي بدّدنا فيه أعمارنا. نلملم أحداث تاريخنا المخفي عنّا، من هنا وهناك. أخفوه لاستمرار طوافنا هائمين في المتاهة. بنوا لنا صرحاً من خيال وطمروا تاريخنا الحقيقي تحت طبقات من الكليشيهات التي اخترعها منتصرون ومتواطئون. نلملم تاريخنا من كتب المذكرات التي تُكتب بعد عشرات السنين، فنكتشف بلداً آخر، شعباً آخر، قصة جديدة لم يحدّثنا بها أحد، ولم يأت على ذكرها كتاب التاريخ المدرسي. ننشأ مُضلّلين وطنياً، وتلك الكليشيهات المنوّمة تغطي عقولنا بقطن الاطمئنان. ننصت إليها كحقيقة نبتنا منها من دون أن ندري، أنّنا لسنا سوى فطر أبيض ينمو في العتمة فوق أرض من سماد نتن. 

وأهلنا؟ هل صدّقوا مثلنا ما قيل لهم؟ أم عرفوا لكنهم أشفقوا علينا من الحقيقة؟ كيف سمحوا بتضليلنا وهم يعلمون حقّ العلم ما عاشوه من أحقاد وحروب وانتماءات طائفية قبلنا؟ كيف أرسلونا إلى تلك المدرسة؟ كيف تركوا تلك الكليشيهات المُزيّفة والخطرة تتسلّل إلى عقولنا لتجيب على أسئلتنا عن ماضينا بأجوبة مُخاتلة؟ 

أيّتها البلاد الماضية في طريقها إلى الهاوية ولا تريد من أحد أن ينقذها، لا بأس. افعلي ما شئت. أعلم أنّكِ في داخلي ولو هاجرت حتى أقاصي الأرض، لا مناص. لذا لن أغادرك، صحيح، لكني في الحقيقة لست فيك. أنا في بيتي، لا أخرج ولا أرى، وأحاول قدر المُستطاع أن لا أسمع، تقليلاً للخسائر وثقلها على القلب. 

الساكت عن الحق شيطان أخرس، صحيح. لكن ماذا يفعل من أمضى عمره يصرخ من أجل هذا الحق، يحارب من أجل مداواة إعاقة اكتشف بعد سنين أنّه لا علاج لها. خلقية. عيب في التكوين منذ الولادة؟ ماذا يفعل من اكتشف أن لا صوت له أصلاً منذ البداية، ليس لأنه أخرس، بل لأنّ من يخاطبه، شريكه في الوطن، لا يريد أن يسمع؟

من هو الشيطان في هذه الحال؟

ضحى شمس
ضحى شمس
كاتبة وصحافية لبنانية.

مدونات أخرى